رؤية – من معايير العمل الجاد لثورة تاريخية

الثورة التغييرية تتطلب القادرين على المضي كمن سبقهم ممن صنعوا معجزات تاريخية على الأرض لأنهم عاشوا بهاماتهم وعزيمتهم ورؤاهم  في ذرى العلياء

39

يعبر كثير منا عن الشعور بنوع من الضياع نتيجة المشهد المعقد في بلادنا، سورية وأخواتها، وغالبا ما ينعكس هذا الشعور بصيغة سلبية محبطة كالقول: "كل العالم ضدنا".. بل نقف داخل الوطن فيبدو لنا المشهد شديد التعقيد أيضا، ويقول بعضنا: لم تعد الثورة ثورة، لقد اختطفت من أيدينا وتم تدويلها، ولا فائدة من أي عمل نقوم به!..

هذا صحيح.. إذا بقي كل منا ينظر إلى "القضية" وهي "حدث تاريخي تغييري ضخم" كما لو أنها "قضيته الخاصة"، أي يقدرها عبر زاوية واحدة تحيط به، وهي زاوية محدودة، فلا يرى للقضية آفاقها القريبة ولا البعيدة.

. . .

يجب أن نستوعب "الواقع"، وأن نحدد معالم "المستقبل" الذي نريد بوضوح، وأن نقرر آنذاك على بصيرة ما يجب صنعه وما يمكن إنجازه.. لننتقل بالثورة والشعب والوطن من واقعنا الراهن إلى ذلك "الهدف المستقبلي" بالذات فلا نسقط على الطريق وفي السبل المتشعبة.

وتوجد قواعد ثابتة للاستيعاب ومن ثمّ  تحديد التعامل الأصح مع مجرى أحداث تغييرية، منها كأمثلة:

القاعدة الأولى: لا يوجد حدث قائم بذاته، بل تأثير متبادل على الدوام بين مختلف الأحداث.

القاعدة الثانية: لا ينتصر طرف بمعزل عن سواه، ولا يصيبه ضرر دون تأثيره على الآخرين.

القاعدة الثالثة: الخطأ في صناعة القرار والحدث خطأ نسبي، والصواب نسبي أيضا، ولكن يتحول هذا وذاك ‎ إلى خطر "مشترك" عندما يتعامل أي طرف مع "الصواب" كما لو كان بضاعة محتكرة في رؤيته هو وفي عمله وحده.

. . .

إقليميا: نعلم مثلا بوجود تأثير متبادل بين "عاصفة الحزم"، والثورة في سورية، والحرب في العراق، واغتيال الإنسان في مصر وفلسطين، والملف النووي الإيراني، والصراع على أوكرانيا.. و.. و..؟.

وطنيا: نعلم كم يتأثر الجميع عند انتصار فصيل، أو عند نشوب اقتتال بين فصيلين، أو عندما ينحرف طرف أو يمارس عدوانا على سواه.. وكيف يتأثر الميدانيون بقرار سياسي، والسياسيون بموقف ميداني..

بتعبير آخر: جميعنا في سورية وإقليميا نركب "سفينة" واحدة، إما أن نصل بها إلى بر الأمان، أو نترك فريقا منا يثقبها فيغرق هو ونغرق.

. . .

على سبيل المثال:

١- كل خطوة لتوحيد الكلمة والصفوف يقرب الثورة خطوات نحو النصر، وكل تأخير يسبب تسديد ثمن أكبر لتحقيق النصر.

٢- كل تنسيق مشترك على أكبر رقعة ممكنة من الوطن، يعود على الجميع بنتائج مشتركة، وكل تحرك موضعي بمعزل عن الآخرين قد يحقق نتائج موضعية، ولكن لا تتجاوز حدود ما يسمّى "الكرّ والفرّ".

٣- كل تخطيط يشمل تقديرا واقعيا للواجبات وللإمكانات يساعد على الاحتفاظ بأرض جديرة فعلا بوصف المحررة، وعلى اكتساب مزيد من تأييد الحاضنة الشعبية، وبالمقابل كل ارتجال أو استباق للمراحل، أو الاقتصار في التخطيط على جانب واحد وفترة زمنية محدودة، يجعل "التحرير" وقتيا ويعرض الحاضنة الشعبية لمزيد من المعاناة.

. . .

كذلك على سبيل المثال:

١- لسورية موقع مؤثر على خارطة الأحداث الإقليمية والدولية، تقديره الصحيح يعني‎ توظيفه من أجل الثورة، ميدانيا وسياسيا.

٢- التعامل الأسلم مع المعطيات الإقليمية والدولية يعني تجنب نتائج سلبية على الثورة.

٣- لا يفيد العداء المطلق ولا التبعية الخارجية لأي طرف، بل يجب السعي لحصر نطاق "تحالف الأعداء" ولتحييد من يمكن تحييده، ولمضاعفة الثقة لدى من يعلمون أن "عمر صلاحية بقايا النظام انتهت" بأن ما سيأتي بعده عبر الثورة لن يسبب لهم "ضررا" أو يقوض لهم "مصالح مشروعة".

. . .

الحصيلة:

لا نزال نفتقر إلى رؤية شاملة صائبة للعلاقة الوثيقة بين جميع "فعاليات الثورة" الميدانية والسياسية وغيرها، وللعلاقة الوثيقة بين مسار الثورة في سورية من جهة وكافة ما يجري حولها إقليميا ودوليا من جهة أخرى، ولذلك "نلهث" أو نحبو وراء مسار الثورة ومسار المتغيرات الإقليمية والدولية.

 

يجب أن نوجد هذه الرؤية ونتلاقى عليها، وهي "رؤية فكرية تنظيرية منهجية" فلا بد من الربط التفاعلي المرن بينها إن وجدت وبين "العمل الحقيقي" في ميادين الثورة في المواجهة على الأرض وفي المواجهات السياسية.

إن عجزنا نحن عن تقديم "مبادرات" سياسية بكفاءة عالية منبثقة عن رؤية "استراتيجية" متكاملة تحرك الركود في الساحات السياسية الخارجية وتجدد الثقة بين السياسة والميدان الثوري والشعب وضحاياه، فإننا نحن المسؤولين عن صناعة "فراغ" يملؤه صخب لقاءات منحرفة في موسكو، وخطب عنجهية في الضاحية، وتصريحات عدوانية في طهران، وإيماءات دولية متناقضة بمناسبة ودون مناسبة.

وإن الانشغال عن "واجبنا وعملنا" المباشر نحن للثورة ودعم مسارها، هو الذي جعل معظم ما نتحدث به وحوله يأخذ صيغة "شكوى" مما يصنع "الآخرون" ضدها، وعندما نتحول نحن قولا وعملا إلى ما ينبغي أن نصنع "معا".. نضع قدمنا على أول الطريق نحو خدمة الثورة والشعب والوطن بدلا من توهم ذلك فحسب.

توجد لهذا الغرض مبادرات بالعشرات، باسم مؤتمرات وتجمعات واتحادات وغير ذلك من التسميات، ممن يريد أن ينقذ الثورة، أو يقود الثورة، أو يجدد الثورة، أو يرشد الثورة، بعضها "يريد" ذلك منذ سنوات، وبعضها "يولد" هذه الأيام.. ولكنها بانفصالها عن بعضها بعضا أشبه بثورات وهمية عديدة متباعدة.. رغم دعوة جميع من فيها إلى الاتحاد والعمل المشترك والتعاون، وغالبا ما يقصد: "انضموا إلينا" وليس "سنعمل معا".

لا يقوم عمل "جماعي" ثوري عبر "جماعات" مختلفة، و"لقاءات" منفصلة، و"حملات" متفرقة.. وإن بقيت مرتبطة بمسار الثورة.. فلا بد من خطوة عملية جامعة، ولن تأتي من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى استخدام الآليات الضرورية لتحقيقها.

بعضنا يقول: هذا واجب جليل.. ويتطلب عملا كبيرا.. ونحن نؤدي هذه المهمة أو تلك، وجميعها مهام ملحة، لا سيما الإغاثية منها وما يفرضه الدفاع "الفوري" المباشر عن أهلنا.

هذا صحيح.. الواجب جليل والعمل كبير.. وهو شرط قطعي لنخرج من واقع "الإغاثة والدفاع" إلى مرحلة انتصارات متراكمة تضع حدا لزيادة المآسي ولتكرارها.. فلا بديل عن أداء الواجب الجليل وممارسة العمل الكبير، ومن التعالي على صغائر الأمور وهي أكثر ما يشغلنا، أما المهام الملحة فهي ضرورة لا يجوز إهمالها دون أن تصبح "هدفا" بحد ذاتها.

إن الواجبات الجليلة والأعمال الكبيرة.. تتطلب القادرين على المضي في طريق التغيير كما مضى من قبلهم العمالقة العظماء في التاريخ، فصنعوا معجزات تاريخية على الأرض لأنهم عاشوا بهاماتهم وعزيمتهم ورؤاهم  في ذرى العلياء.

نبيل شبيب