تحليل – وقفة ثورية مع مصر الثورة

ثورات التغيير الشعبية في مصر وأخواتها تحتاج إلى مزيد من العطاء والإبداع.. لصناعة إنسان الثورة الحضارية الإنسانية

48

من ينظر فيما يصنعه الانقلابيون في مصر الثورة هذه الأيام لا بد أن يرصد مشاهد أخرى لإحدى العجائب التي

نعايشها أثناء ثورات الربيع العربي جميعا، وهي في بدايات التغيير التاريخي المنتظر.

كلما ذكرنا الإسلام محركا للثورات، أقبل علينا بعض "الناصحين" من المسلمين وغير المسلمين، ومن العلمانيين ومن الإسلاميين، ليقول إن الوقت غير مناسب لربط الثورات براية إسلامية.

كلا.. ليست المشكلة في "راية إسلامية" تعبر عن الإسلام وتنطلق منه كما أنزله الله تعالى، بل المشكلة فيمن يشوّهها وفيمن يعاديها، فليست راية الإسلام كما أنزله الله راية "إقصائية" وليست راية "مخيفة" وليست راية "عدوانية".

الإقصائيون الذين يرفعون راية الإسلام يشوهونها ويقصون أنفسهم عن حقيقة الإسلام، والإرهابيون الذين يخيفون الناس من الإسلام يرتكبون إثما كبيرا بحق الإسلام، والمعتدون على الأبرياء من الناس، كافة الناس، من مختلف الأديان، بمن فيهم المسلمين، ويزعمون أنهم يجاهدون تحت راية إسلامية، هؤلاء يضعون أنفسهم خارج نطاق جميع ما ورد في القرآن الكريم عن الجهاد والقتال وعن الإنسان وعن الحقوق الإنسانية.

بالمقابل.. نسائل الناصحين كيف نتعامل مع جيل الشباب وهو يعايش معنا، أثناء ثورات الربيع العربي، وهي في بدايات التغيير التاريخي المنتظر كيف يتحرك نظام انقلابي في مصر بكل ما تسلط عليه من ثروات الشعب والأرض وكل ما يجده من دعم عدواني خارجي، ليمارس مختلف ألوان العداء المباشر للإسلام نفسه، فيعمل لتزوير حقيقة الإسلام عبر من يحمل زيّا منسوبا إليه وهو لا يرقب في مواقفه وأقواله الرقيب والعتيد، ويعمل لتزييف عدالة الإسلام عبر تجيير القضاء لخدمة استبداد العسكر والقيام بحملة شعواء بالاغتيالات الجماعية التي يسميها أحكاما بالإعدام والسجن ويستهدف بها إسلاميين وغير إسلاميين من أهل مصر، ويعمل لنشر الكراهية للإسلام عبر تجنيد إعلام لا يعرف من أمانة الكلمة حتى لفظها، ناهيك عن أن يعرف كلمة طيبة أو سديدة أو صالحة كما أمر بها الإسلام.. ثم يصل الأمر في هذه الأثناء إلى استهداف الإسلام نفسه واستهداف أحكامه..

أفلا يعطي الانقلابيون في مصر بذلك دليلا إضافيا أنهم يخشون من "المحرك الإسلامي" في صناعة ثورات التحرير.. لأنه محرك تحرير الإنسان وليس تحرير "المؤمنين" فقط، ومحرك تحرير السلطات من الإجرام والطغيان، وليس تحريرها من مخالفة "الشريعة" على حساب أصحاب الشرائع الأخرى كما يزعمون، ومحرك تحرير قضايا بلاد المسلمين وغيرهم من العبث الاستبدادي المحلي والدولي بها، كما يجري تجاه فلسطين ولا سيما غزة، وليس محرك تحرير "أرض المسلمين" فقط.

. . .

لقد كانت ثورة شعب مصر من اللحظة الأولى لاندلاعها مدرسة للتغيير الحضاري الإنساني عندما يكون الإسلام "محركا" لتغيير، فإذا بها تجمع المسلم وغير المسلم في مسارها فور اندلاعها، ولا تزال ثورة مصر مدرسة يعلمنا شبابها الكثير.

كلا..

ليست الثورة الشعبية عندما يحركها الإسلام، وترتوي من قيم الإسلام، تغييرا "انقلابيا" ولا "حزبيا" ولا "فئويا" فجميع ذلك قد يبدّل السلطة فحسب.. بل هي ثورة تاريخية لأنها تغيّر الواقع من جذوره لصالح الإنسان.

ليست ‎"حلا وسطيا" ولا "ثمرة جزئية" ولا "محاصصة توافقية"، فجميع ذلك محوره السلطة.. والثورة الشعبية الحقيقية محورها الشعب والوطن والمستقبل والإنسان.

ليست "حوارا يحل خلافا" ولا "مفاوضات مرحلية" ولا "هدفا جزئيا"، فجميع ذلك يستبقي أو لا يستبقي بعض "سلطة طاغوتية".. وبقاؤها يستدعي تجديد الثورة فهي ثورة "ارحل" وثورة "الشعب يريد إسقاط النظام"، وتلك بوابة صناعة مستقبل آخر لا يضمّ شيئا من "فيروسات“ الاستبداد والفساد.

لا تطرح الثورة الشعبية "شعارات سياسية" بل يطرح الشعب الثائر شعارات "إنسانية تاريخية جامعة".. يمثل كل منها منهجا لطريق ينبثق من تحرّر إرادة الشعب بديلا عن شعارات سياسية كانت وما تزال تعبر عن حزب أو اتجاه أو سلطة أو إملاء أجنبي.

. . .

إنّ ثورات التغيير الشعبية في مصر وأخواتها تحتاج إلى مزيد من العطاء والإبداع.. ومزيد من الفهم والاستيعاب، على طريق صناعة مستقبل التغيير، عبر صناعة إنسان الثورة الحضارية الإنسانية.

وإن ما يجري في مصر هذه الأيام لا يعني "نكسة للثورة" بقدر ما يعني "هزة عميقة" لمن لم  يستوعب حتى الآن معنى الثورة ولا يراها بوابة تاريخية لتغيير جذري شامل مستقبلي.. بدأ يوم ٢٥ / ١ / ٢٠١١م وانتقل الآن إلى مرحلة تالية فحسب، وستأتي بعدها مراحل أخرى.

لم ينقطع المسار التاريخي.. ولكن انقطع عنه من سلكوا بعد ١٨ يوما أولى من الثورة في مصر مسارات أخرى، نتيجة التوهم أن الثورة انتهت، فمضى مسار الثورة من دونهم، وسيمضي من دون غيرهم، ليبقى الشعب الثائر من بعدهم جميعا، وليصنع مستقبله بنفسه، ولديه من الوعي وهو يقدم التضحيات ما يكفي للقبول مجددا بمن يتخلّى عن المسارات المتشعبة ويعود قولا وفعلا إلى مسار الثورة.

ولكن التاريخ لا يرحم -كما يقال- لأنه لا يتوقف عند أحد، فمن لا يسرع الخطى ليلحق بركب التغيير، سيبقى مع أقرانه في عام ٢٠١١ أو ٢٠١٥.. ويمضي ركب التغيير مع الثورة إلى صناعة الأعوام القادمة وفق إرادة الشعب الثائر بإذن الله.

والله غالب على أمره.

نبيل شبيب