مختارات – نوال السباعي – هلوسات

نوال السباعي: قليلون يجاهدون مستميتين، مصمّمين على المضيّ نحو كوّة النور مهما كان الثمن

50

 

عادت الأمّة إلى هويّتها – قلبوا كل الحقائق أباطيل – المسجد الأقصى مازال يحترق

 

الزحمة خانقة، والسرداب يضيق، والوهن اللزج العفن يملأ المكان برائحة واخزة قاتلة، والعتمة تعمي وتصمّ، وفي آخر المتاهة بصيص نور باهت ضعيف لا يكاد يبين. الكلّ يلعنون الظلام والاكتظاظ والقاذورات.. وقليلون يجاهدون مستميتين ضدّ هذا الموات الزؤام، يزحفون تحت ثقل تلك الكتلة البشرية الجاثمة على قدرها تقتات جلد الذات ولا تتحرك، يتشبّثون بالأرض ويتقدّمون ببطء، يحفرون الجدران القذرة بأظافرهم ليتركوا معالم على الطريق للآتين من خلفهم، لكنهم يمضون مصمّمين على المضي نحو كوّة النور تلك ومهما كان الثمن!.

 

عادت الأمّة إلى هويّتها

خمسة وثلاثون عاما مضت (ساعة كتابة هذه السطور عام 2003م).. والأقصى مازال يحترق.. هنا في القلوب يُحيل الصدور إلى غابات من نار، وتطيش العقول بهلوسات من الآلام المتّصلة، لم تبدأ بذلك الحريق ولن تنتهي قطعاً باستشهاد "اسماعيل أبو شنب".

الأباتشي تضرب وتحرق وتقتل، صواريخ الغدر والعدوان والإرهاب تخترق صدور المجاهدين المنافحين وحدهم عُزلاً عن شرف هذه الأمة، ونحن نعقد قمماً مع العدو حيناً ونستعدّ لاستقبال "النتن-ياهو" في قلب الخليج العربي تارة أخرى.

الأقصى مازال يحترق بعد خمسة وثلاثين عاما، لكنه وعلى الرغم من الحريق عاد إلينا بعد غياب، عاد إلى الضمير الجماعي لهذه الأمة، عاد إلى تاريخها وجغرافيتها، رغم أنف كلّ الذين يريدون لوعيها أن يغيب ولإيمانها أن يتزلزل ولهويّتها أن تذوب.

هذه الجماهير الهائمة على وجهها والتي يُعنفها رجال الأمة اليوم أن خرجت مهووسة بالسوبر ستار، هي نفسها التي هبّت بالأمس القريب يوم فسح الإعلام العربي للانتفاضة جزءا بسيطاً من دوائر بثه، هذه الجماهير هي نفسها التي حملت القدس هماً وألماً وقضيةً يوم غلطت فضائياتنا الخائنة العميلة وبثّت "زهرة المدائن"، و"أصبح عندي الآن بندقية"، هذه الجماهير غير غائبة عن القضية ولكن إعلام حكوماتنا هو الذي يريد لهذه الأمة أن تنسى ولكنها لم تنسَ ولن تنسى.

عادت الأمّة إلى هويّتها بعد أن ظنّ الظانّون أنّها انتهت وأصبحت أحاديث، فلقد أعاد أبناء القدس بدمائهم وأشلائهم الى الأمّة شيئا من شرفها المُهان بيد حكامها، ودمها المسفوح بيد أعدائها، لأنّها أمّة تتمتّع بخصوصيّة استثنائية، وخاب وخسر المنظّرون للحداثة والتغريب والتهميش، إنّها أمّة تحمل في صدور أبنائها بذور الحق التي ما تلبث أن تُنتش نخيلا يطرح ثمرا وفيئا وخيرا كلّما سُقيت ولو بقليل من ماء الحقّ المحرومة منه بسطوة الإعلام كما بسلطة الزنازن والتعذيب. إنّها أمّة واحدة تحمل همّاً واحدا وألماً واحدا، ذات رسالة خالدة أخطأ من سلخها من هويّتها الأساسيّة التي قامت عليها أصلا، مسيحيّوها مسلمو الثقافة ومسلموها قوميّو اللسان وأقوامها على اختلاف مشاربهم ولغاتهم يعشقون القدس التي تلمّهم وتضمّهم جميعا، وعند كلّ فجر جديد يلتقي شتات هذه الأمة على حبّ القدس ومعابدها العتيقة.

 

قلبوا كل الحقائق أباطيل

الأقصى مازال يحترق، والأفعى الأخطبوطيّة مازالت تتغذّى كأعداء "هاري بوتر" على دماء الأبرياء، و"سيّد الخواتم".. يرسل ملوكه الأشباح يمتطون صهوات جياد شيطانيّة سوداء، تحاول البحث عن ذلك الخاتم الأخير الذي يحمله فتى صغير حافي القدمين ضعيف، لكنّه وحده على ضعفه، القادر على الوقوف في وجه أولئك الوحوش من مصاصي الدماء، تضطرب في عروقهم شهوات السلطة والسيطرة على العالم، وحده تارة ذلك الفتى يمسك بالخاتم، وتارات أخرى يقف معه الشرفاء الأوفياء الأخيار، وجنيّة عرّابة تستصرخ جياد الأمل فتنهض على حين غرّة من نهر رقراق كان ينساب صفاء وهدوءا، فإذا بعفاريت الخير تنبثق من ذلك السكون وتولد الصافنات الجياد مثيرة جبالاً من الغضب في وجه أغوال الخوف والرهبة، فتحمل العرّابة ذلك الفتى الذي بيده وحده إنقاذ العالم من سرطانات الحقد الأسود الذي يريد أن يمدّ حدوده من النهر الى النهر ومن البحر الى البحر قائما على الكراهية والتدمير والاستيطان الاستئصالي، متمادية ملوكه في القتل والذبح والسلخ والهدم والتشريد والقهر.

والأقصى يحترق.. قلبوا كل الحقائق أباطيل، جعلوا من المجاهدين إرهابيين، ومن الفدائيين انتحاريين، ومن الثوّار قتلة مارقين، ومن الأحرار متخلّفين رجعيّين، وبحثوا لكلّ مفخرة عن منقصة، ولكلّ ميزة عن جُبّ يبتلعها في غيابات عمليات غسيل العقول العالمية، كسروا كل موازين الحق، وانتهكوا كل شرف المواثيق الإنسانية، وجاؤوا يقولون إنّنا شرّ أمّة أخرجت للناس!!.. لكنّها الانتفاضة، انتفاضة الأقصى وحدها، بقيت المُنتَج العربيّ الوحيد الذي صدّرناه إلى كل شعوب الأرض وببراءة اختراع لايختلف عليها اثنان، وبجدارة من يستطيع أن يُسمع الصمّ، صدّرنا انتفاضة الأقصى الى عالم أُريد له أن يغلق قلبه دون الحقّ، عن أصوات الألم البشري، عن آهات المظلومين، عن نحيب العذراء، وهي ترى فلذة كبدها يرتفع نحو السماء وكلّ من حوله كفروا به أو خانوه أو كادوا.

صار الحجر بيد كل مظلوم وثائر وحرّ في عالم الإعلام الموحّد والفكر الموحّد والرؤية الموحّدة، في عالم "هاري بوتر"، و"سيد الخواتم" اللذين لم يقدّما لأطفال العالم الا نسخة منقّحة ومصحّحة عن معركة الحقّ مع الباطل، وانقلب السحر على الساحر وبقي الحقّ حقّاً واضحاً كالفجر الأبلج ينتصر بيد طفل أعزل قُتل والداه ظلماً وهُدمت داره على يد الشيطان ظلما، وبقي الحقّ في خاتم من نار يقبض عليه "فرودو" الصغير البسيط حافي القدمين، الذي أُخرج من داره ظلماً وجاب الأرض طلباً لنصرة الحقّ وحده حيناً وبمساعدة الأخيار الأبرار حينا آخر.

من قال بأن "هاري بوتر" كان فلسطينيّا؟، من هذا الذي يدّعي أن "فرودو" أخذ الخاتم من "محمد الدرة"؟؟!!.. من جعل من الكوفيّة الفلسطينية رمزاً عالمياً لكسر القيود والتمرّد على الظلم ولو كان ذلك إغلاق مصنع صغير لبسكوت "الكويتارا" في قرية صغيرة من قرى أسبانية؟؟ من قال إنّ أهل الحق ليسوا أقارب وأولاد عمومة؟!.

 

المسجد الأقصى مازال يحترق

القافلة تمضي وفي قلوبنا لا يهدأ الحريق، الأفعى فاغرة فاها تريد المزيد من الدماء، والأبرار الأبطال الأوفياء يقاتلون واقفين وحدهم بصمود الجبال وشموخ السحاب، والقافلة تسير لا تأبه بعواء الكلاب ولا الذئاب، من هذا الذي يستغرب أن يعشق السوري فلسطين؟ من هذا الذي ينكر أن فرق الفدائيّين الاستشهاديّين من المغاربة كانت قد تهافتت لتفدي الأقصى بالروح والدم؟ من هذا الذي يريد أن يمنع السعوديّين والكويتيّين من التفكير في افتداء الأقصى الأسير؟ من هذا الذي يريد أن يخفي تاريخ البوسنيّين والشيشان الذين جاؤوا لمساعدة العرب في قتال البريطانيّين لإنقاذ القدس؟.

القدس في قلوبنا ماتزال تعيش وحريق المسجد الأقصى وبعد خمسة وثلاثين عاما مازال يشبّ في النفوس والعقول والأرواح، الحدود ستسقط بسقوط المستبدّين الذين يتغذّون على تكريسها، والحقّ لا يموت أبدا ومهما اجتمعت الإنس والجن على قتله وذبحه وتشويهه وتقطيع أوصاله ودفنه تحت ألف ركام قذر عفن متفسخ، فإنّ للحقّ قدرة عجيبة مخيفة على أن يمزّق أكفانه ويلمّ أحشاءه وينهض ويبعثر التراب عن جسده المنهك ويمشي فوق الجرح ويفاجئ العالَم كذلك الغلام الذي ارتجف الجبل بقاتليه وأتى الملك يمشي سالما غانما.

الزحمة خانقة والسرداب يضيق والعتمة تعمي وتصمّ، والمسجد الأقصى مازال يحترق بعد خمسة وثلاثين عاما، أهل القدس يهرولون لإطفاء الحريق بأكفهم العارية، بأجسادهم المنهكة، بأرواحهم الغالية بدمائهم العزيزة، ونحن.. لم نمت بعد، سنبقى.. هاهنا نشقّ الجدران الصمّاء بأظافرنا نحفر معالم للآتين من ورائنا، لأطفالنا، سنوقد في صدورهم شمعة من نيران الأقصى تجعلهم يعرفون الطريق من بعدنا، تحمّلهم الأمانة العظمى التي بقيت في أعناقنا.

قليلون يجاهدون مستميتين ضدّ هذا التيّار، يزحفون تحت ثقل هذه الجبال من التخاذل والخيانات، يتشبّثون بالأرض، يحفرون في الجدران العفنة معالم للطريق، مصمّمين على المضيّ نحو كوّة النور ومهما كان الثمن.

نوال السباعي