رأي – الدور التركي الإقليمي بمنظور سوري

إن تكوين رؤية ذاتية للثورة الشعبية في سورية، ومسارها، والقوى الفاعلة فيها، هو العنصر المفقود الأول قبل البحث عن "أدوار" خارجية

45

انتشرت في أوساط السوريين أسئلة استفهام كبيرة، تختلط بالحيرة من خلال متابعة السياسات التركية إقليميا، وهذا ما بلغ درجة متقدمة الآن على خلفية الزيارة الأخيرة للرئيس التركي إردوجان لإيران.. ولا تجد هذه التساؤلات إجابات مقنعة دون الرجوع إلى بعض البدهيات السياسية، وفي مقدمتها:
١- التعامل السياسي يقوم على لغة المصالح.. وهذه غير قابلة للاستخدام دون وجود مصالح بالفعل، وهذا حال العلاقات التركية-الإيرانية، ولا يسري بالقدر نفسه على العلاقات الإيرانية-الخليجية مثلا..
٢- ليست النقلة من لغة المصالح إلى لغة الضغوط والمقاطعة والحصار نقلة "قرار ارتجالي" فهذه اللغة وسيلة معقدة وذات حدين، لا جدوى منها إن لم تكن مدروسة بحيث تحقق الهدف السياسي بالفعل، كما أنها تسبب أضرارا للطرفين، فلا بد من الموازنة الدقيقة عند اللجوء إليها..
٣- أما لغة المواجهة المباشرة إلى درجة الحرب، فهي أخر الوسائل لتحقيق غرض سياسي، ولا يعني ذلك بالضرورة تغليب المصالح على القيم، فقد تنتهك القيم دون حرب أو عبر الحرب، وقد تقع الحرب ولا تخدم غاية سياسية مرتبطة بالقيم.

. . .

إن غياب المصالح نسبيا من خارطة استراتيجية للعلاقات بين طرفين أو أكثر إقليميا، يعني عدم وجود ما يمكن توظيفه للتأثير السياسي المتبادل، ولا حتى عبر المستوى الثاني أي الضغوط والمقاطعة، ولهذا يمكن القفز بالقرار السياسي إلى حالة حرب، كما تشهد "عاصفة الحزم" في التعامل الخليجي مع قضية اليمن.. بعد أن طفح الكيل بالتدخلات الإيرانية.
بالمقابل طفح الكيل في تركيا أيضا بسبب التدخلات الإيرانية في العراق وسورية، ولكن‎ وجود مصالح كبيرة بين إيران وتركيا، يجعل الخطوة السياسية الأولى هي توظيف هذه المصالح دون الانتقال إلى مرحلة القطيعة أو المواجهة أو الحرب.. وتوجد شكوك كبيرة حول قابلية نجاح لغة المصالح، ولكن يبقى السؤال مطروحا:
علام لا تصل تركيا مع إيران على صعيد قضية سورية إلى شبيه ما وصلت إليه مع قضية اليمن.. وقد بدأ يأخذ ملامح "وساطة" ربما بمشاركة باكستانية؟  
هذا سؤال يدفع حاليا إلى تكهنات عديدة بقدر تعدد العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند محاولة الإجابة الموضوعية، ومنها:
١- إن التحرك التركي بشأن اليمن مرتبط بواقع جديد نشأ بسبب انطلاق "عاصفة الحزم" عسكريا، فهنا يقترن تأثير العامل العسكري الخليجي "إقليميا" بالعامل الاقتصادي التركي "إقليميا"، ولا يسري شبيه ذلك على سورية..
٢- التحرك التركي والإيراني السريع على صعيد قضية اليمن ممكن لأنه لا يمس بقوة مصالحهما الإقليمية، لأسباب جغرافية وسياسية واقتصادية عديدة، وهذا ما يختلف تماما مع موقع قضية سورية على خارطة الحسابات الإقليمية والدولية..
٣- أصبح واضحا أن إيران يمكن أن تقبل بتراجع جزئي في اليمن، قبل أن تضطر إلى دفع ثمن باهظ هناك للحصول على ما تستهدفه في مشروع هيمنتها الإقليمية بتدخلها المتواصل عبر الحوثيين وأتباع صالح، ولكن إيران لا تقبل ‎بتراجع مشابه في سورية، كما يتبين من خلال ثمن باهظ دفعته فعلا ولا تزال على استعداد لدفع المزيد، ليس بسبب بقايا السلطة الأسدية المهترئة، إنما بسبب ما تعتبره هي مصالح "حيوية" في سورية -وكذلك العراق- وهنا ندع العامل الطائفي وتوظيفه كأداة همجية جانبا، ويكفي التنويه موضوعيا بالعامل الجغرافي وموقع البلدين ما بين إيران وشرق البحر الأبيض المتوسط.

. . .

اليمن بلدنا، وأهله أهلنا، ودم ضحاياه كدم ضحايانا في سورية، ومثل ذلك يسري على أقطارنا العربية والإسلامية الأخرى جميعا، لا نغفل عن ذلك ونحن نرصد أن حجم المأساة والمعاناة في قضية سورية هو ما يساهم في طرح تساؤلات استنكارية من قبيل: 
أين عاصفة الحزم على الأرض السورية الدامية؟  
أين التحرك التركي الفاعل من أجل سورية كالتحرك من أجل السوريين المشردين إلى تركيا؟  
كل محاولة للإجابة تحقق "فائدة واقعية" بقدر ما ننجح في تجريدها من العنصر العاطفي الوجداني (ولا ننكر أنه طبيعي وضروري كقوة دافعة في التعامل مع قضايانا جميعا) وبقدر ما ننجح في الوصول إلى رؤية موضوعية وتقديرات موضوعية للممكن وغير الممكن على خلفية استعداداتنا الذاتية وكذلك على خلفية واقع عالمنا المعاصر.
دون الخوض في التفاصيل: لا ينتظر إطلاق عاصفة حزم ولا حسم في قضية سورية، وتتطلب أحداثها وحيثياتها تحركا إقليميا ودوليا آخر.. نفتقده أيضا، كذلك لا ينتظر أن يتجاوز التحرك التركي القائم بالفعل حدودا معينة، وليس من مصلحة الثورة الشعبية في سورية أن تخسر تركيا بسبب أي تحرك خاطئ، العناصر الذاتية الضرورية للتحرك التركي أصلا، أي الاقتصادية والعسكرية والسياسية المرتبطة بعلاقات إقليمية ودولية.
 إنما يكمن في السؤال المطروح ابتداء خطأ جسيم.. فمسار الثورة وبالتالي مآلقضيتنا في سورية لا يتطلب التطلع بالضرورة إلى شبيه ما وجده التعامل مع قضيتنا في اليمن.
إن تكوين رؤية ذاتية للثورة الشعبية في سورية، ومسارها، والقوى الفاعلة فيها، هو العنصر المفقود الأول قبل البحث عن "أدوار" خارجية.. وهذه الرؤية الذاتية الموضوعية مقدمة للرؤية الاستراتيجية التي تضع العوامل الإقليمية والدولية في حساباتها وبالتالي الأهداف البعيدة والقريبة وسبل التعامل مع مسار الثورة مرحلة بعد أخرى دون الإغفال عن التفاعل مع المعطيات والمستجدات الطارئة.
هذا ما نعبر عنه كثيرا عندما نتحدث عن الثورة التغييرية والتاريخية وعن الثورة الكاشفة واليتيمة وما إلى ذلك مما نطقت به فطرة الشعب الثائر وسال من أجل تأكيده الدم الطاهر، ولكن.. لم نعمل له كما ينبغي فكرا وسياسة وتواصلا ولم نربط من أجله بين الجناحين الميداني والتنظيري للثورة.
ومن دون ذلك قد نحتاج إلى زمن أطول، وليس هذا الثمن لقصورنا ثمنا بسيطا.. فهو مقترن بالخسائر البشرية والمادية وبآلام المعاناة، وهذا لا يوجب علينا المشاركة بالألم والدعاء فقط، بل يوجب قبل ذلك وبعده: العمل الجماعي الهادف المشترك.

نبيل شبيب