تحليل – النخب والربيع العربي.. بين مدّ وجزر

وقع كثير منا في مطبات التأثر الآني بالمشهد، وافتقدت الجماهير الثائرة الرؤية البعيدة المدى من جانب النخب، وكانت أحوج ما تكون إليها

44

لئن كان رأس الحربة في التحرك الشبابي المتجدد، موجها ضد من يوصف بالانقلابيين على الثورات الشعبية، فمن المفروض أن نستشعر فيه أيضا أنه يهز مجددا مواقع من اعتدنا على وصفهم بنخب العطاء الفكري والعمل السياسي، إذ يضعها أمام مسؤولية الارتفاع إلى مستوى متطلبات هذه المرحلة من مسار الحقبة الثورية العربية في اتجاه تغيير جذري شامل.. لم تستقر عجلته على مسارها بعد.

 

اللحظة الآنية.. وعمقها التاريخي

من الطبيعة البشرية طغيان التأثر بمشهد اللحظة الراهنة على رؤية الطريق الأمثل للتصرف وفق مقدماته ومآلاته، وهذا ما شهدناه في لحظات ميلاد الثورات الشعبية العربية غافلين عن أن عملية "التغيير" نفسها، التي فتحت الثورات لها بوابة تاريخية، أشبه بطفل رضيع، لا بد أن يحبو ويتعثر في خطواته الأولى قبل أن ينشأ ويصلب عوده ثم يبلغ أشده.

في لحظات سقوط بعض رؤوس الاستبداد انتشر الاقتناع باكتمال النصر، ومعه اطمئنان مخادع.. فلا داعي لمتابعة شعلة بوعزيزي على طريق تطهير البلاد، ولا لحراسة ميدان التحرير من ردّة أذرع السيطرة العسكرية، ويكفي ما صنعته المبادرة الخليجية بإزاحة رأس الاستبداد من صدارة المشهد وإن بقيت أصابعه تعبث وراء ستار، ناهيك عن إغفال المنتظر بعد مشهد عجرفة أحد الطغاة حيث استقر بها مصير جثمانه..

وفي لحظات الجزر في مسار الربيع العربي، ونتوء رؤوس بديلة للاستبداد وفساده، ينتشر وهم الاقتناع بنهاية الربيع العربي نفسه، ومعه التيئيس القاتل من متابعة طريقه.

لهذا يفاجئ بعضَنا مشهد صناع الثورات وهم يتابعون دورهم التاريخي، ويؤكدون أن له مسارا يمكن أن يطرح "المطرية" في القاهرة مثلا كعنوان جديد، وقد يطرح سواه، رمزا وأسلوبا.. فعلام نبقى أسرى التطلع إلى تكرار مشهد "التحرير" و"رابعة"، وهو إن لم يتكرر بحذافيره -ولن يتكرر- يضاعف مفعول التيئيس القاتل؟

ثورة مصر في ذلك مثال على سواها، ولا يعني ما سبق أن ما شهدته سوف يحدد بشكل نهائي تفاصيل معالم المرحلة التالية من مسارها، إنما يدعو إلى مراجعة نظرتنا إلى الحقبة الثورية التاريخية الحالية، فهي لا تقتصر على لحظات آنية بعينها، بل تمتد من لحظة البداية مع بوعزيزي، حتى لحظة الوصول.. عبر منعطفات المدّ والجزر وتقلبات الإنجازات والنكسات، إلى لحظة التغيير الجذري، لحظة استقرار مشهد آخر في "حقبة النهوض المستدام" التالية.

لم تكن مشاهد هروب مستبد وتنحي آخر وإقصاء ثالث ومقتل رابع وسقوط خامس في وحل همجيته الدموية.. هي المنعطفات الحاسمة للحقبة الثورية الحالية..

وليس من المنعطفات الحاسمة لمصيرها أيضا استعلاء رؤوس أخطبوطية جديدة للاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ولا ما ظهر من نتوءات إرهابية واتخاذها مع غيرها ذرائع لزيادة أوار الوقود اشتعالا من وراء ردة أعاصير التحرك المضاد لتحرير الإرادة الشعبية..

هذا وذاك من رغوة زبد المد والجزر، مما عرفت شبيهه ثورات التغيير التاريخية الغابرة، مع عدم إغفال أنها لم تكن شعبية بمعنى الكلمة من حيث انطلاقها وهوية صناعها، كما هو الحال مع ثورات الربيع العربي.

لقد وقع كثير منا في مطبات التأثر الآني بالمشهد، وافتقدت الجماهير الثائرة الرؤية البعيدة المدى من جانب النخب، وكانت أحوج ما تكون إليها، فهي الجديرة بهذا الوصف وإضاءة الطريق، بقدر ما يكون لديها من علم عميق، لا سطحي ولا عاطفي، بدروس الماضي وتجاربه، ومن قدرة منهجية على استشراف المستقبل وشروط بنائه، إنما أغفلت تطلعاتنا إلى النخب ودورها، أن قطاعا كبيرا منها كان أسيرا ومحاصرا ومطاردا، أو أصبح جزءا من منظومة الاستبداد والفساد محليا، ومن منظومة التبعية والهيمنة على مسرح تشابك المصالح والمنافع المحلية، الإقليمية والدولية.

 

خطاب جيل الثورات إلى النخب

في اللحظة الراهنة من الحقبة الثورية يتحرك الشباب والفتيات من صناع ثورات "الربيع العربي" لتذكيرنا مجددا بأنه "لا يوجد أصغر من أن يعلّم.. ولا أكبر من أن يتعلم" -كما يقول أستاذي الجليل عصام العطار-  فيضعون مجددا نخب القلم والسياسة أمام مؤشرات عميقة المغزى بصدد مسؤوليتهم التاريخية بعد انطلاقة الثورات الشعبية.

نحن في حاجة إلى عمل نخبوي قيادي ميداني.. لا تؤديه النخب القيادية إذا ركنت إلى مواقعها المعتادة في الماضي، مما يرمز له تعبير "البرج العاجي"، أو أرادت قيادة الركب الثوري عبر "التشبث" بمقدمته -وهو من صناعة جيل المستقبل- بدلا من مواكبته، والسير "معه"، خطوة خطوة، لتعايش بنفسها ما يتعرض له من مخاطر وتتلمس احتياجاته ولا تنفصل بنفسها عن عالمه وعن لغة العصر الذي يعيش فيه.

نحن في حاجة إلى رؤية نخبوية متميزة تستوعب الحدث وتطرح معالم مساراته المستقبلية.. ولا يفلح في فهم

الحدث الثوري التغييري الجديد من لم يملك من قبل القدرة لتوقعه ولا للتخطيط لصنعه، إذا اكتفى الآن بما اعتاد عليه من بدهيات قواعد التفسير والتأويل، المنبثقة "سابقا" عن تجارب الماضي، فلم يتجاوزها عبر إبداع الجديد من الرؤى والفرضيات، المنبثقة "الآن" عن استيعاب ما أبدع الثوار من مسارات جديدة لصناعة الحدث ولا يزالون يبدعون.

نحن في حاجة إلى جهود نخبوية في صناعة الإنسان المعاصر من أجل مجتمع التغيير المستقبلي.. ولكن من يتصدى لذلك من النخب في حاجة هو إلى وسائل متطورة جديدة، تتفاعل مع المتغيرات الواسعة النطاق في عالمنا المعاصر، والمختلفة اختلافا كبيرا عما عرفناه من مهرجانات خطابية ومؤلفات موسوعية واحتفالات الجوائز المرموقة، فمن يعتقل نفسه في نطاق المألوف منها عنده، يتحرك بسرعة السلحفاة اليوم في سباق مع سرعة انتقال الصوت والصورة والحدث وتفاعلاته عبر الأثير من أقصى الأرض إلى أقصاها.."قبل أن يرتدّ طرف" من يطلقها.

 

تجديد الثقة عبر العطاء

لقد انتشر الانطباع العام بأن جيل الثورات الشعبية فقد الثقة بالنخب، وهذا ما توحي به أساليب التعبير المعروفة في وسائل التواصل الحديثة، فهي مليئة بألوان من الغضب الشديد وخيبة الأمل تجاه العلماء والدعاة والمفكرين والأدباء والإعلاميين والأحزاب والجماعات والسياسيين وكثير من قادة الثوار في ميادين مواجهة عنف الاستبداد وهمجيته.

لا شك في انتشار خيبات الأمل فعلا نتيجة صور مخزية يرمز إليها مثلا تعبير "علماء السلاطين"، ونتيجة انفصام كثير من أهل العلم المعاصرين عن الواقع واستغراقهم في استقراء مؤلفات الأقدمين لإسقاط اجتهاداتهم على وقائع معاصرة لم يكن أوسع فطاحل الأقدمين أفقا يتصورونها أصلا، ناهيك عن أن يقصدوها بما أبدعوه في زمانهم لأهل زمانهم.

إنما يمكن بالمقابل استقراء مؤشرات بالغة الأهمية مما يبدو للوهلة الأولى من عوامل تشبث نخبوي بتخلف عميق عن الحقبة الثورية الراهنة. مثال على ذلك ما شهدناه من حرص المستبدين والانقلابيين على أن يحيط بهم في مساراتهم المنحرفة من يقبل لنفسه أن يكون في ركبهم تحت عنوان ديني أو فكري أو شبابي.

هذا أسلوب عتيق لا يجدي، ولكن يكشف عن إدراك المستبدين والانقلابيين لضرورة "تجميل مظهرهم" بتزييف يوهم باعتمادهم على توجيه ديني ورؤية فكرية وطاقة عطاء الشباب، وفي ذلك دليل على معرفتهم بأن العامة والخاصة من الشعوب لم يفقدوا الشعور بالحاجة الماسة إلى هذا الذي لا يملكه المستبدون والانقلابيون، فهم مضطرون إلى "التضليل" بشأنه.

وصحيح أن تعميم هذه الصور المنحرفة ساهم في انتشار خيبات أمل غاضبة، ولكن نشهد بالمقابل -على سبيل المثال أيضا- كيف انتشر الاعتماد على أفراد أو "هيئات شرعية" عديدة، كما هو معروف عن الفصائل الثورية في سورية تخصيصا. لا يخفى نقص المؤهلات لدور نخبوي توجيهي من وراء ذلك، ولكن لا ينبغي أن تخفى "الدوافع" أيضا، ومحورها الحرص الثوري العام على محاولة "تعويض" ما يفتقده جيل الثورة من دور النخب على هذا الصعيد، مثالا على سواه.

في الوقت نفسه نرصد إقبالا متصاعدا لدى جيل الثورات على طلب الدورات التأهيلية، والمعرفة التخصصية، في ميادين يعرفها عالمنا المعاصر، للإدارة الحديثة، والقيادة الواعية، والتنظيم الهادف، وشبكات التواصل المتطورة، وما شابه ذلك مما لا يمكن تحقيق إنجاز كبير من دونه في عصرنا الحاضر. 

إن التزييف من جهة ومحاولات التعويض الثورية من جهة أخرى، والتطلع إلى التسلح بمتطلبات الإنجازات المنهجية المستدامة من جهة ثالثة، يضاعف مسؤولية النخب من أهل العلم والفكر، أن ترتفع بمستوى عطائها مضمونا وشكلا، لتواكب الاحتياجات المتنامية لدى الجيل الثوري، وضرورات تأهله لصناعة التغيير التاريخي الذي يتطلع إليه.

وبقدر ما تنهض النخب بمسؤوليتها هذه وبمستويات أدائها، يمكن أن تستعيد موقعها للإسهام في صناعة المستقبل، وأن تواكب تسارع خطى جيل الثورات الشعبية، في التأهل لصناعة النهوض المرجو، جنبا إلى جنب مع خوض الجولات المتتالية ما بين مد وجزر في ربيع الثورات العربية التاريخية المعاصرة.

نبيل شبيب