تحليل – الإساءات في "معركة القيم"
إدانة الإساءات وإدانة أعمال إرهابية، تكتسب قيمتها عبر ممارستها بمعيار الإسلام وتعامله مع الإنسان وحقوقه ومع المجرم والظالم والمعتدي
لن نستوعب حدثا من قبيل "الإساءات لمقام النبوة" و"الهجوم الإرهابي على صحيفة شارل إيبدو"، دون استيعاب الأبعاد الفكرية والتاريخية لهذا وذاك، فليست الإساءات الكاريكاتورية وردود الفعل عليها قضية جديدة ولكن وصلت بها حادثة الهجوم إلى مرحلة صراع جديدة، بغض النظر عن رفض "أسلوب القاعدة" في خوض هذا الصراع رفضا قاطعا.
تطورات "معركة قيم" محورها الإنسان
الإساءات باسم حرية التعبير على الطريقة الحداثية، في مواجهة الأديان السماوية، جولة من الجولات فيما يمكن وصفه بمعركة القيم الدائمة، ومحورها الإنسان.
الحرية ضمن إطار العبودية لله هي بمنظور القيم الدينية مثلا: "إما شاكرا وإما كفورا"، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".. ولكن مع ربط الإنسان بخالق الإنسان ليتحقق تحرره من أشكال العبودية البشرية: "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله".
بالمقابل تبقى حرية الإنسان بمنظور الحاضنة القيمية لمرتكبي الإساءات هي "الحرية الحداثية" فقط، فلا وجود للوحي، ومن آمن بالوحي لا تريد "الحرية الحداثية" أن يكون لما يعتقده دينيا دور في ممارسة العلاقات البشرية، السياسية وغير السياسية، إلا في حدود ما تسمح به تلك "الحرية الحداثية".
ليس هذا جديدا.. وبالنسبة إلى التعامل مع الإسلام تخصيصا، نعلم من حقبة التنوير في أوروبا، أي قبل ظهور الفلسفات الحداثية الأقرب إلى الإلحاد كالوجودية والجدلية المادية، أن عنصر "الإنسان" في الرؤية الدينية الإسلامية جعلت كثيرا من مفكري التنوير والأدباء في الغرب، يطلقون مواقف منصفة عبر مقولات لا يزال بعضنا يستشهد بها، وآنذاك كانت "معركة القيم" تلاقحا وتنافسا وليس صداما حضاريا، أسلحتها فكر وأدب، ولكن غلب على تلك المقولات -وغيّبها- مسلسل إساءات سعت لتعميم صورة مشوهة عن الإسلام لدى العامة من أهل الغرب، سواء للتنفير منه، أو لتسويغ حملات عدوانية، لم تكن "استعمارية عسكرية" فقط، ضد المسلمين وبلادهم.
هذا ما ساهم فيه قديما زعماء غربيون، كنسيون وعلمانيون، وأصحاب أقلام، مستشرقون ومفكرون وإعلاميون، ثم مناهج تعليمية في الكتب المدرسية والثقافية، و"إبداعات" فنية في الأفلام السينمائية وبرامج تلفزة، فلا تأخذ "الإساءات" الحديثة في هذا المسلسل مكانا يتجاوز "حلقة أخرى"، أشهر محطاتها "الكاريكاتورات" المسيئة إلى المقام النبوي، بريشة رسام دانيماركي، ثم الإساءة البابوبة في "محاضرة" ألقاها البابا الكاثوليكي السابق بينيديكت السادس عشر، ثم "فيلم" قصير مسيء للقرآن الكريم، اضطر صاحبه السياسي اليميني المتطرف "فيلدرز" الهولندي إلى نشره شخصيا في الشبكة، بعد رفض وسائل الإعلام الهولندية وسواها أن تنشره.
لم تقع هذه الإساءات وأمثالها في فراغ.. بل كانت الجانب السلبي في تطور يجري على أرض الواقع، فمع ارتفاع كثافة "التواصل البشري" عبر التقنيات المتطورة، بدأت تنتشر في الغرب مواقف منصفة للإسلام والمسلمين، بصورة تصاعدية، كما ارتفع عدد من يعتنقون الإسلام بصورة ملحوظة، ولم نجد ما يشابه ذلك باتجاه معاكس.. بتعبير آخر: أصبحت معركة القيم الإنسانية الحضارية بأسلحة الفكر والأدب معركة خاسرة بالمنظور الحداثي الغربي.
ويمكن القول أيضا: منذ سقطت الشيوعية وأعلن في مطلع التسعينات شعار "الإسلام عدو بديل" لم يعد نشر القيم الحداثية مجرد عملية فكرية وثقافية تعتمد على الإقناع، بل انطلق من يخوضها في الغرب من منطلق "احتكار الصواب" على صعيد القيم، مع توظيف "أسباب القوة المادية" لفرض ما يعتبره الحداثيون الغربيون منظومة قيم، يعاملونها معاملة التقديس.
المهم مقابل ذلك أن ردود الفعل من جانب المسلمين عموما:
١- كانت جماهيرية ونخبوية دون تنظيم أو منهجية مدروسة.
٢- وكانت متطرفة من جانب فئات محدودة العدد بمنطلقات "فكر القاعدة".
إن استخدام العنف المباشر باسم الإسلام دون مشروعية إسلامية، بل دون فرصة حقيقية لتحقيق النصر، أصبح يصب مباشرة في صالح الفئات المتنفذة ماديا في الغرب، والتي ترى بقاء هيمنتها مرتبطا بتحول معركة القيم الفكرية الخاسرة، إلى معركة مسلحة يرون النجاح فيها أقرب منالا.
ألا ينبغي أن نستخرج من هذا المسلسل والردود عليه مواطن الخطأ ومواطن الصواب، وبالتالي بعض المعالم لما ينبغي أن يكون عليه التصرف الناجع؟
لا ينبغي دعم مواقع مرتكبي الإساءات
لا يخفى في الوقت الحاضر، أن الهجوم على الصحيفة الفرنسية المذكورة قد أدّى بنفسه أو من خلال استغلاله، إلى تضامن تجاوز حدود الفئات المتنفذة إلى المستوى الجماهيري، بصورة غير مسبوقة، وهذا على غرار ما بدأ بنسبة محدودة في حكاية "سلمان رشدي وآياته الشيطانية" وسواه في العقود الماضية.
ليس هذا السلوك الخاطئ جديدا من حيث الجوهر إذن..
من مقال لكاتب هذه السطور نشر في شبكة الجزيرة يوم ٧ / ٢ / ٢٠٠٦م، بعد الإساءة الكاريكاتورية الأولى لصحيفة مغمورة ورسام مغمور في الدانيمارك:
(أوّل ما يلفت النظر في ردود الفعل الجماهيرية للمسلمين على الإساءة لمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالتالي للإسلام والمسلمين.. هو تعميم المسؤولية عن هذه الإساءة..
الطرف الذي مارس الإساءة في البداية هو رسّام كاريكاتور، ورئيس تحرير صحيفة مسؤول عمّا تنشر، ولا يصنع ذلك كلّ رسّام غربي، ولا كلّ صحيفة غربية.. ومن المؤشّرات على ذلك وجود نسبة عالية من الرافضين لتلك الممارسات وفق عمليات استطلاع الرأي ومواقف العديد من الإعلاميين..)
تكرر ذلك لاحقا في التعامل مع إساءة فيلدرز:
من مقال لكاتب هذه السطور نشر في شبكة "قاوم" يوم ٦ / ٤ / ٢٠٠٨م:
(وجدت الإساءة رفضا رسميا وشعبيا وإعلاميا محليا واسع النطاق في هولندا، حتى عجز صاحب الإساءة عن مجرّد نشرها في وسيلة إعلامية، ورغم ذلك كانت أصواتٌ عديدة، وفي مواقع المسؤولية، في البلدان الإسلامية، تعتبرها إساءة "هولندية" شاملة، وليست إساءة فرد متطرّف..)
أهمية استيعاب الخلفية المعرفية للآخر
من يرغب في التأثير على "الآخر" يجب أن يكون عالما بمواطن التأثير ومنطقه عبر معرفة الخلفية المعرفية له:
١- الخلفية الفلسفية الثقافية للحضارة الغربية المعاصرة تقوم على مسيرة طويلة وصلت جزئيا على الأقلّ في عصر ما بعد الحداثة إلى ما يوصف بتدنيس المقدّس، وكون ذلك يثير الاشمئزاز والرفض المطلق لدى من نشأ على معايير القيم الحضارية الإسلامية لا ينفي أنّ كثيرا من عامة الغربيّين لم يعد قادرا على التمييز بين المقبول والمرفوض في إطار "حريّة" الفرد في تدنيس "مقدّسات الآخر".
٢- الحرية الفردية وما يتّصل بها من حرية التعبير وحرية الإعلام وما شابه ذلك انحرفت في الغرب عن مسارها التنويري الأول، وأصبحت تنطوي على كثير من التناقضات والازدواجية.
٣- الإعلام ومعظم مراكز الفكر والأدب والفنون، وكذلك الأجهزة السياسية تقودها في الوقت الحاضر قيادات تنتمي إلى ما يسمّى جيل "ثورة الطلبة عام 1968م" الذي نشر مفهوم "الحرية المطلقة" في ميادين عديدة، وهو ما جعله العلمانيون الحداثيون محورا لفكرهم وسلوكهم، ونشروا من خلاله أمراضا اجتماعية عديدة، بموازين القيم الإسلامية والإنسانية عموما، والآن فقط بدأت المؤشرات الأولى على ردود الفعل على مستوى الجيل التالي، ومن المؤكّد أنّ الاتجاهات المغالية في الغرب على هذه الأصعدة ستنحسر تدريجيا.
٤- لا قيمة هنا للقول الذي يتردّد أحيانا على مستوى جماهيري، إنّ هؤلاء القوم لا يفهمون إلاّ لغة "المصالح المادية" وأنّه يجب "تركيعهم"، فالخوف من مقاطعة البضائع الدانيماركية مثلا، لم يدفع آنذاك "الغربيين" إلى التراجع، بل أقدمت وسائل إعلام غربية أخرى على نشر الرسوم الكاريكاتورية نفسها، وكأنّها تقول لجماهير المسلمين، إذا أردتم المواجهة مع "الدانمارك" ومنتجاتها، فاصنعوا ذلك مع سائر الأوروبيين ومنتجاتهم.
لقد أصبحنا بذلك بين طريقين:
طريق ردود أفعال غير مدروسة ولا منظمة تساهم في تحويل عدوّ صغير محدّد المعالم إلى عدوّ كبير عبر تحفيز مَن لم يتضامن معه في الأصل إلى التضامن "تعصّبا"..
وطريق التأثير بالمنطق الذي يبحث عن مواطن التأثير الموجودة والعمل على بقاء الطرف المسيء في دائرة ضيقة، داخل نطاق المجتمع الذي ينتمي إليه.
معالم من الوضع الراهن
يجب أن نخرج من مفعول ردود الأفعال، ويجب أن نخرج من تأثير الضغوط والاستفزازات الخارجية، ويعني ذلك مثلا أن إدانة الإساءات وإدانة الأعمال الإرهابية، تكتسب قيمتها بقدر ما نمارسها من "منطلقنا الذاتي"، أي بمعيار أن الإسلام يوجب إدانتها بمنطق تعامله الذاتي مع الإنسان وحقوق الإنسان وكذلك مع المجرم والظالم والمعتدي.
وفي الوقت نفسه:
لا ينبغي أن يكون ذلك مع إغفال واجب الرد بما نملك من "قوة" المقاومة، المشروعة بمختلف المعايير، عندما تتعرض الأوطان ويتعرض الإنسان في بلادنا وعالمنا لعدوان أجنبي.
وعلينا أن ندرك في الوقت نفسه أننا أمام "مواجهات متتالية، اجتماعية وثقافية وفكرية وفنية وإعلامية"، وهذه مواجهات "واسعة موضوعيا وممتدة زمانيا" وتحتاج إلى استخدام "أسلحة اجتماعية وثقافية وفكرية وفنية وإعلامية" إضافة إلى مقاومة العدوان المباشر في أرضنا، ومع رؤية منهجية للمدى القريب والبعيد، ليكون مفعول المواقف الموضوعية والضغوط المدروسة هو المفعول الأكبر من مفعول التجاوزات والإساءات العدوانية الحمقاء والردود الدموية الحمقاء عليها.
نبيل شبيب