تحليل – الظاهرة الإسلامية وساحات الإرهاب والعدوان

لا بد من التعامل الموضوعي مع جميع جوانب المشهد، للوصول إلى أمن وسلام، فليس الأمن أمنا ولا السلام سلاما، إلا عندما يشملان الجميع

42

القاعدة العامة معروفة: كل فعل له رد فعل، سلبا وإيجابا، وكل تجاهل للمسببات يجعل علاج الانحرافات عسيرا إن لم يصبح مستحيلا، ولا يعني هذا تسويغ انحراف مقابل انحراف، فمن "ينحرف" ردا على "انحراف" عدوه.. يصبح مثله، فيحمل المواصفات التي يدينها ويشكو منها، ويصبح القول الفصل لميزان القوة المادية وحدها.

 

تفكيك مشهد الفوضى الهدامة

إن التأثير على العلاقات البشرية يتطلب استيعابا واقعيا عميقا يولد تعاملا هادفا سليما.. وهذا ما يسري على "الظاهرة الإسلامية" المعاصرة، وقد انشغلت الساحة العالمية ببعض ما رافقها من "أورام ونتوءات" فحسب، واتخذ هذا الانشغال أشكالا منحرفة أيضا:

١- خلط متواصل بين ممارسات مرفوضة من جهات سميت تزويرا "تيارات جهادية" وبين حقيقة الجهاد الأصيل المشروع بوسائل متعددة، منها القتال، أي استخدام السلاح ضد عدوان مسلح.

٢- تفاقم ما يوصف بالإرهاب تحت عناوين إسلامية، والتركيز عليه، كما نشهد فيما سمي "التحالف الدولي ضد داعش" مقابل تفاقم ممارسات الاستبداد ولا تجد "تحالفا" ضدها، بل ما يساندها من أعاصير مضادة لتحرير الإرادة الشعبية، كما نراها في التعامل الإقليمي والدولي مع ثورات الربيع العربي الشعبية.

٣- التخويف من الإسلام في الغرب وتوظيفه لإقناع العامة من الشعوب بحتمية استمرار العدوان على الإنسان المسلم والدين الإسلامي والأرض الإسلامية، ويوجد من يعترض على تسمية الوقائع بمسمياتها، ومن يتحدث عن "لغة المصالح" أو لغة سياسات واقعية منفعية، ولكن المهم هو النتائج، وضررها كامن فيما يجري على أرض الواقع، وهذا ما يجب تسميته كما هو، ثم النظر في تعليله وتفسيره، لضمان سلامة التخطيط لمواجهته.

باختصار:

من لا يضع الجزئية -أيا كانت- في موضعها من مشهد يضم سائر الجزئيات، لا يراها على حقيقتها ولا يستطيع التعامل معها كما ينبغي.

 

وجوب الإدانة "الواعية"

كلما وقعت حادثة "إرهابية" مرفوضة بجميع المعايير والمقاييس، الدينية والوضعية، الإنسانية والمصلحية، كحادثة الهجوم الدموي على مقر صحيفة "شارلي إيبدو" العلمانية الساخرة "الشعبوية" في فرنسا، توالت التصريحات الرسمية والحملات الإعلامية أن على منظمات المسلمين في الغرب إدانة العمل قطعيا، وتعلن تلك المنظمات الإدانة فعلا، ولكن لا ينقطع تكرار المطالبة.

الأهم من ذلك:

الإدانة واجبة ليس بسبب تلك المطالب، وليس وفق لغة المصالح، وليس استباقا لردود أفعال عنصرية، وليس بدافع مناورات سياسية واجتماعية، وليس خوفا من هذه الجهة أو تلك، وليس استهانة بما كان من إساءات بحق الدين الإسلامي والمقام النبوي..

إن الإدانة تكتسب قيمتها وفعاليتها عندما نمارسها من "منطلقنا الذاتي"، وكل ما عداه دوافع إضافية.

ندين تلك العملية الإرهابية وأمثالها لأن الإسلام يوجب إدانتها، بمعاييره الذاتية، وبتعامله الذاتي مع الإنسان وحقوق الإنسان وكذلك مع المجرم والظالم والمعتدي.. وبالذات "استخدام القوة" بمعطيات ووسائل وقواعد وآداب، فمن لا يلتزم بها، جدير بالإدانة، ولو كان للأحكام الإسلامية مكانتها ومفعولها في التقنين والتشريع والتنفيذ عبر سلطات شرعية، لوجبت المقاضاة والملاحقة والعقوبة وليس الإدانة فقط.

ولكن -مع التأكيد مجددا على عدم تسويغ العنف غير المشروع- يجب التأكيد إلى جانب الإدانة، أن هذه الحادثة وأمثالها ليست معزولة عن:

١- مسلسل الإساءات الاستفزازية -وإن كانت سخيفة- للإسلام والمسلمين والمقام النبوي الشريف..

٢- الدفاع عمن مارسها ويمارسها بمنطق "صراع" القيم‎، أي إلغاء "حدود" فضاءات حرية التعبير -وهي موجودة في الأصل يعبر عنها: تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين- مقابل الحد من فضاءات حرية معتقد "الآخر" وهي فضاءات تشمل كرامته ومشاعره واحترام ما يراه عبر معتقده وإن كان مخالفا..   

٣- الوجود العسكري الغربي العدواني الاستفزازي -ومنه الفرنسي-  في عدد من البلدان الإسلامية.. وهو شكل من أشكال "الانحراف الهمجي" في العلاقات البشرية، فإذا سبب هذا "الفعل" ردود أفعال، مع ظهور "انحراف إرهابي" في بعضها، انتقل من يمارسون العدوان الغربي ويروّجون له إلى "تعليل" عدوانهم وتصعيده بذلك الانحراف الإرهابي.. أي مع تجاهل مسلسل "نظرية السببية".

٤- انتشار أجواء عدائية، تشوه صورة الإسلام وقضايا المسلمين وتثير المخاوف لدى العامة من أهل الغرب تجاه الإسلام والمسلمين، بوسائل عديدة، ثقافية وتربيوية وفنية وفكرية، تراكمت نتائجها عبر حقب تاريخية ماضية، وأضيف إليها حديثا المزيد، عبر تشريعات تقنينية وإجراءات عملية وتصريحات سياسية وممارسات إعلامية، في فرنسا -كمثال تطرحه الحادثة الأخيرة- حيث تزيد نسبة المسلمين من ذوي الأصول الفرنسية وغيرها على عشرة في المائة من السكان، وفي دول غربية عديدة أخرى.

٥- كثرة الكلام عن ضرورة حل القضايا الشائكة والأزمات المستعصية عبر الحوار وليس باستخدام العنف، وعن الشفافية والمحاسبة وسيادة القضاء، إلى آخره من القيم التي تفقد قيمتها نتيجة ازدواجية التعامل بها.. والأمثلة لا تحصى، منها إرهاب حقبة بوش الهمجية العدوانية المخالفة للقوانين الدولية والأمريكية والإنسانية والدينية والوضعية، ثم متابعة خلفه لطريقه بوسائل أخرى، تمويهية بمظهرها، مماثلة في مضمونها، خطيرة في حصيلتها.. ثم ما سببه ذلك السلوك "الرسمي" من ضحايا من الأبرياء المدنيين، مما يعد مئات الألوف.. جميع ذلك يصنف في خانة شأن "رسمي سياسي ومصلحي وأمني قومي"، أما إرهاب جماعات متفرقة، تنتحل عنوان الإسلام وتقتل أفرادا بأعداد محدودة أو كبيرة، قتلا همجيا مرفوضا، بمختلف المعايير، فأمر يوجب لديهم (ويسوّغ) إجراءات مضادة ووقائية وهجومية واستباقية، يصل كثير منها إلى مستوى "عقوبات جماعية" تجاه عموم المسلمين، في الغرب نفسه أو على امتداد العالم.

باختصار:

لا بد مع الرؤية الشاملة من التعامل الموضوعي مع جميع جوانب المشهد، للوصول إلى أمن وسلام، فليس الأمن أمنا ولا السلام سلاما، إلا عندما يشملان الجميع.

 

مواقفنا مع استيعاب المتغيرات

من منطلقنا الإسلامي أيضا -وليس على سبيل المناورة ولا التسويغ.. إلى آخره مما سبق ذكره- ينبغي رصد المتغيرات أيضا، فلا نجعل الصورة "الصحيحة" للمشهد العام كما رأيناها بالأمس وكأنها سارية المفعول إلى الأبد، فتكون مواقفنا عتيقة لا تقنع ولا تجدي، بسبب غفلتنا عمّا استجدّ وتبدّل من المعطيات.

ما المقصود بهذا الكلام؟

مثال أول: التعامل الأمريكي مع همجية بوش العدوانية.. يشهد ‎معطيات جديدة، لا ترقى إلى مستوى المحاسبة الواجبة، هذا صحيح، ولكن رؤيتها بحجمها "الضئيل" الحقيقي، يستدعي تحديد مواقعها ومفعولها، للعمل على زيادة حجمها وتأثيرها.

الحصيلة:

يجب أن نجمع بهذا الصدد بين الرد بما نملك على أرضنا وداخل نطاق شعوبنا من "قوة" المقاومة، المشروعة بمختلف المعايير، عندما تتعرض الأوطان ويتعرض الإنسان في بلادنا وعالمنا لعدوان أجنبي، وبين الرد وراء خطوط العدو بما نملك من "قوة" التأثير العقدي والفكري والخلقي والثقافي والإعلامي، للفصل بين حاضنة شعبية مؤيدة للعدوان جهلا بتضليلها أو لأي سبب آخر، وبين السلطات وقوى النفوذ التي تصنع القرار.

مثال آخر: في مسلسل "الإساءات" المعروفة لا يقتصر الأمر في الغرب عموما على "فئات أصولية" في فهمها للحريات الغربية فهما "عنصريا وازدواجيا وماديا"، بل توجد أيضا "فئات موضوعية منصفة"، ترفض تلك الإساءات وتدين من يمارسها، وتدعو إلى خطوات عملية مدروسة وهادفة للحد من انتشارها وبالتالي ردود الفعل عليها..

الحصيلة:

نحن نخوض "جولة مواجهات متتالية، اجتماعية وثقافية وفكرية وفنية وإعلامية"، وهذه جولة "واسعة موضوعيا وممتدة زمانيا" وتحتاج إلى استخدام "أسلحة اجتماعية وثقافية وفكرية وفنية وإعلامية" وكذلك التمويلية والحقوقية القضائية، ليكون مفعول المواقف الموضوعية والضغوط المدروسة هو المفعول الأكبر من مفعول التجاوزات والإساءات العدوانية الحمقاء، أي ينبغي الجمع بين العمل وبذل الجهود على المدى المتوسط والبعيد، وبين العمل الواعي والمدروس على المدى القصير القريب.

مثال ثالث: ظاهرة "التخويف من الإسلام" تشهد حاليا اختلافا جوهريا في واقع الساحة السياسية والإعلامية والاجتماعية بالمقارنة عما كانت عليه في حقبة "التسعينات" من القرن الميلادي الماضي، فضلا عن اختلافها بين بلد غربي وآخر، كتصاعد انتشارها في الولايات المتحدة الأمريكية وانتشار رفضها في ألمانيا.

الحصيلة:

في الأعوام العشرة الأولى من القرن الميلادي الحالي، لم ينقطع في ألمانيا -كمثال- التخويف من الإسلام عبر وسائل إعلام (مجلة الشبيجل الأسبوعية الكبرى توزيعا مثال صارخ على ذلك) وكتب "غوغائية"، فضلا عن سياسات تحريضية، معظمها نتيجة الوهم بانتزاع الأحزاب التقليدية أصوات الناخبين مما يوصف باليمين المتطرف، وكانت النتائج معاكسة لذلك.. أما الآن فلا يكاد ينقطع في ألمانيا التحذير السياسي والحزبي والفكري والإعلامي يوميا من سلسلة مظاهرات يوم الاثنين الأسبوعية لما يسمى حركة "الوطنيين الأوروبيين ضد أسلمة بلاد الغرب".

باختصار:

من لا يرصد المتغيرات ويتابعها ويستوعبها ويتفاعل معها، يتخلف عن قدرة التأثير على أرض الواقع في اتجاه تحقيق تطلعاته وأهدافه.

 

في الختام

في عصرنا الحاضر أصبحت "الظاهرة الإسلامية" هي الحاضرة أكثر من سواها في جميع الميادين وعلى امتداد الوجود البشري جغرافيا، ويمكن أن تتحول إلى إرهاصات حضارية تخدم الإنسان ومستقبله في الحياة الدنيا علاوة على نوال الفوز في الأخرة لمن يقترن صلاح عمله بالإيمان.. ولكن:

لن تكون "الظاهرة الإسلامية" ظاهرة حضارية على أرض الواقع، إلا بقدر ما تكون إنسانية، وهي الكلمة المرادفة لقولنا: إسلامية القيم والوسائل والسلوك.

أسباب القوة بأنواعها ضرورية أيضا، ولكن لا نتميز في استخدامها إلا بمنظومة القيم.

كل رد فعل على انحراف غير حضاري في العلاقات البشرية اليوم، برد مماثل عبر تغييب القيم وهمجية الوسائل وانحراف السلوك، يسلب "الظاهرة الإسلامية" مصدر قوتها وعنصر التميز الحضاري لديها تجاه تصورات وضعية، لا سيما وأن منها القويم نظريا، ولكن ساءت حصيلته لسوء تطبيقه كما نشكو باستمرار، فكيف نقلد ما نشكو منه ومن عواقب ما صنعه في واقع البشرية على حساب الإنسان الذي كرمه خالق الإنسان؟

نبيل شبيب