رؤية – مسؤوليتنا الشعبية عن المشهد في سورية

إذا أردنا مخرجا، فلنبحث عنه خارج "‎مشهد التشرذم" العام المهيمن على اللحظة الراهنة من مسار الثورة والتغيير

42

ابتلي مسار الثورة الشعبية في سورية بظاهرتين خطيرتين..

أولاهما: امتناع السياسيين وكذلك الثوار المسلحين عن تكوين هياكل تنظيمية محكمة، بسبب عدم تطابق الرؤى في الكليات والتفاصيل، والتطابق مستحيل، والنتيجة هي التشرذم في كيانات متفرقة.

والثانية: في حالة الاضطرار للتلاقي الاستثنائي بين بعض المختلفين في بنية هيكلية مشتركة.. تبدأ محاولة كل فريق فرض ما يراه على الآخرين، فيعطل الجميع بعضهم بعضا ويمنعون "العمل المشترك" إلا في نفق الخلافات.. والنتيجة هي التشرذم أيضا "تحت سقف واحد".

هذا على امتداد السنين الماضية، ولكن.. ماذا يفيد أن نحمّل -نحن العامة من الشعب الثائر- السياسيين والقيادات الثورية والنخب المسؤولية عن سوء الوضع الراهن؟

ألسنا نحن أيضا مسؤولين عن وجود هؤلاء وممارساتهم التي نشكو منها؟

 

حرفة التشرذم

لم تتبدل صورة هذا المشهد العام بغض النظر عن مواقع أطرافه المبعثرة.. بل امتد مع تفاصيله المؤلمة إلى العالم الافتراضي أيضا، وكان وسيلة للتواصل من وراء الحدود والقيود، ومتنفسا للتعبير في عالم كمّ الأفواه وكتم الأنفاس، وأصبح:

عالما افتراضيا حافلا بفنون متجددة من ‎صياغة الشتائم من كل صوب نحو كل صوب.

وعالما افتراضيا "فارغا" عبر عزوف كلي عنه أو عن محاولة خدمة الثورة من خلاله.

وعالما افتراضيا "مليئا" بكلام جميل مكرور بأقلام قديرة متفرقة في "أبراجها العاجية".

بل انتشرت أيضا ظاهرة اصطناع تحركات وحوارات ومؤتمرات وتنظيمات افتراضية حافلة بالكلام على امتداد شهور وشهور.. مقابل غياب مذهل عن عالم الواقع.

منذا الذي يستطيع أن يبصر طريق العمل وسط أكوام لا نهاية لها من تحركات واقعية دون إنجاز، وتحركات افتراضية على هامش الواقع؟

 

حول حجج "السياسيين"

لكل طرف من أطراف مشهد التشرذم حججه.. ولكن:

هل يتطلب شيء مما سبق الخوض في مقارنة المواقف والحجج والمزاعم والادعاءات؟

ربما.. لو كان يوصل ذلك إلى تغيير إيجابي حقيقي في المشهد العام، وليس هذا محتملا.

صحيح أن غالبنا من عموم الشعب الثائر في وطننا الواحد مغيّب عن دهاليز السياسة وعن خنادق المواجهات الثورية، ولكن نعلم جميعا أن قيمة أي عمل هو بما ‎يتحقق من إنجازات: نتائج ملموسة ومرئية لصالح الثورة والوطن والمستقبل، فأنذاك يكون الفريق الذي حققها على صواب.

 صحيح أن الثوار في هذه الثورة "اليتيمة سياسيا.. لا شعبيا".. يتناحرون أيضا، ولكن يحققون إنجازات ميدانية من وقت لوقت ومن مكان لآخر..

بالمقابل.. يتحرك السياسيون، ويختلفون، وينتخبون، ويختصمون، ويجتمعون، ويفترقون، ويفاوضون، ثم يفاوضون، وجميع ذلك مرفق بقولهم: سنحقق إنجازات.. ولكن أين هي حتى الآن؟

لهذا نترك جانبا الخوض في جدل حول الحجج الكلامية فما أسفر الجدل من قبل عن حصيلة.. وكيف يكون له مفعول، ما دام "استمرار سيل الدماء" و"تعاظم حجم المأساة" لا يترك مفعولا مؤثرا على "عقلية" أساطنة التشرذم باسم السياسة وباسم الثورة، وعلى ممارساتهم، ولا على المتشبثين بكلام يعتبرونه عملا أو يجعلونه بديلا عن العمل.

ولكن نضع مشهد التشرذم وجها لوجه أمام من لا يزال قادرا على "التنفس" من المشردين والمنكوبين، ومن عامة الثوار المقاتلين، ومن عامة المحاصرين داخل قراهم وأحيائهم، ونتساءل معهم:

منذا الذي يستطيع الاطمئنان على نفسه ووطنه وثورته وجدوى معاناته وأهله ومستقبلهم إذا:

– أسفر (كمثال أول) ضجيج ما يوصف بالحراك السياسي الحالي، عن ذهاب فريق إلى "موسكو" أو "جنيف" وامتناع آخر..

– أو تكرر (كمثال آخر) توجيه فريق حرابه لبعض أهل الوطن الواحد بدلا من السلطة الهمجية مقابل شدّ آخرين الرحال على دروب التفاوض.

إذا أردنا مخرجا، فلنبحث عنه خارج "‎مشهد التشرذم" العام المهيمن على اللحظة الراهنة من مسار الثورة والتغيير، وعلى واقع الوطن ومن نصب نفسه للتصرف بمصائر أهله.

 

هل الأفق مسدود فعلا؟

بعضنا يتحدث حول مجموع المشهد الثوري السوري تحت عنوان "انسداد الأفق"..

الأفق موجود الآن كما كان موجودا من قبل اندلاع الثورة وأثناء الثورة. ولولا ذلك ما اندلعت الثورة واستمرت..

الأفاق لا تُسدّ..

ولكن نحن الذين لا نراها من وراء ما شغلنا به أبصارنا أو تراكم أمام أبصارنا من سحاب وضباب.. والسحاب والضباب من الأعداء و"الأصدقاء".. فلنبحث عن "الآفاق" في أنفسنا وما بيننا!

لا بد من تركيز الجهود لدعم مسار الثورة والتغيير على رؤية تخترق ما يحجب أفق المستقبل عن أبصارنا من أسباب التشرذم وتجلياته، وكذلك من أسباب افتقادنا النظرة الثاقبة.

يردد بعضنا أحيانا: أمل المستقبل في جيل المستقبل.

ولكن جيل الثورة، جيل الشباب والفتيات الناشئ في رحم الثورة، لم يحقق حتى الآن زخما -بالقدر الكافي- لتحويل إنجازاته المحدودة إلى إنجازات كبيرة، تأهيلا لنفسه وتمكينا، واستيعابا للواقع حوله وإبداعا، وتأثيرا على السياسة وتوجيها.

هذا جزء من المشهد العام أيضا.. إنما كيف تتوافر لجيل المستقبل الإمكانات للعطاء والتطوير، إذا كان أصحاب الإمكانات يوظفونها لدعم هذا الفريق أو ذاك من أطراف مشهد التشرذم السياسي.. وحتى الثوري، ولا يجعلون من إمكاناتهم سندا لجيل الثورة وإبداعاته إلا قليلا؟

هذا مما ينبغي استدراكه قبل فوات الأوان، كما ينبغي أيضا اعتماد قواعد ثورية ومعايير لدرب التغيير وما يتطلبه من جهود مهنية بناءة، في التعامل مع الثورة والسياسة، دون استثناء فريق أو فئة أو فرد ثائر أو ميدان من الميادين.

من هذه القواعد والمعايير كأمثلة مبدئية تحتاج إلى بلورة نهائية واستكمال:

أولا: الإرادة الشعبية الثورية هي مصدر المشروعية لتمثيل الثورة لا سيما في اللقاءات مع أطراف خارجية، وكل لقاء يمثل اتجاها قائما بذاته لا يملك تلك المشروعية ولا يلزم سوى نفسه.

ثانيا: في غياب الوسائل والآليات المضمونة لتجسيد الإرادة الشعبية في مؤسسة أو تنظيم أو تجمع، أثناء الثورة، لا تتحقق المشروعية "المؤقتة" طوال مسار الثورة، إلا من خلال الإنجاز المرئي الملموس في تحقيق أهداف الثورة ومصلحة الشعب والوطن، وليس من خلال تنميق منصب، أو تضخم تنظيم، أو تحصيل اعتراف أجنبي بفصيل أو فريق دون آخر.

ثالثا: توظيف الرؤية المستقبلية لترسيخ الخلافات في مسار الثورة الآن يلحق الضرر بها ويؤخر تحقيق أهدافها، فهو عمل مرفوض يسقط تلك المشروعية المؤقتة عمن يمارس هذا التوظيف.

رابعا: الدعم غير المشروط باتجاه أو بانتماء أو بإملاء‎ خارجي.. واجب مفروض على القادرين من أهل الوطن داخل الحدود وخارجها، وكل تقصير وكذلك كل تمييز يتجاوز ذلك، هو وصمة بحق من يمارسه، لأنه يلحق الضرر بالثورة والشعب والوطن.

 

الضغوط المطلوبة

ليس الأفق مسدودا.. ولكن ينبغي أن نعترف بأننا نحن من عموم الشعب الثائر، القادر على ممارسة ضغوط ثورية جبارة، نحن مسؤولون عن منع أنفسنا من رؤية أفق المستقبل الذي نرجوه ونتطلع إليه، ونحن المقصرون عن ممارسة تلك الضغوط للوصول مستقبلا إلى ما نريد.

نحن من‎ نشيح بأبصارنا عن أفق المستقبل، وننشغل بما يمنعنا عن رؤيته، ونصدع رؤوسنا ونكسّر أقلامنا في حدود الجزئيات من واقعنا الراهن وفي حدود عالم افتراضي، فننشغل بهذا وذاك، فكرا وشعورا وجدلا، ونساهم من حيث لا نقصد في نشر الضباب دون رؤيتنا للآفاق المستقبلية.

نحن من نحتاج إلى التخلص من الاعتياد على التعامل سلبا أو إيجابا مع ما لا يقدم ولا يؤخر، ولكن يبهر أبصارنا عبر ضجيج سياسي أو إعلامي أو تمويلي أو تنظيمي احتفالي.. أو ما شابه ذلك.

نحن من نحتاج -بدلا من ذلك- إلى "إتقان" ممارسة الضغوط.. دون الانزلاق فيما نشكو منه من فتن وشتائم وصراعات على مسائل جانبية وتفاصيل لا نهائية غير ذات شأن في الوقت الحاضر.

نحن من نرصد ضحالة حصيلة ما "يصنعون" ونشكو.. دون أن نصنع الممكن الأفضل، يوما بعد يوم، أثناء سقوط مزيد من الشهداء قطعا من أفئدتنا، وإصابة مزيد من الجرحى مع الدماء في مآقينا، وآلام مزيد من المعتقلين والمعذبين تطلق الآهات من صدورنا، ومعاناة مزيد من المشردين والمحاصرين من بين أيدينا ومن خلفنا وعن يميننا وشمائلنا.

فمتى.. متى  نثور على أنفسنا وواقع تقصيرنا.. ونحن من نعتبر أنفسنا الشعب الثائر ومصدر إعطاء المشروعية لكل من يتحرك باسمنا ومصدر حجبها عمّن لا يفعل؟

نبيل شبيب