تحليل – الالتزام الطوعي.. أول بنود العمل الثوري
متى نلتزم جميعا، أن يكون أي إنجاز يريد "بعضنا" تحقيقه، إنجازا ثوريا فعلا، بأن يكون في حصيلته ما تعنيه كلمة "نحن" في الأصل، شعبيا وثوريا ووطنا مشتركا
تسارعت إنجازات الصمود والعطاء في مسار الثورة الشعبية في سورية من جنوب البلاد إلى شمالها، وكأنها دخلت في سباق مع ما يوصف بمساعي "حل سلمي" أو "هدن محلية" أو "ممرات آمنة" أو "وساطات خارجية"، وقد انتشر جميع ذلك مع انتشار ما يعبر عن الألم، من قبيل "تعبنا.. أصبحنا وحدنا.. لا بد من وقف سيل التضحيات.. نحن في محرقة المعاناة والمعترضون في الفنادق ووراء المكاتب".. وكذلك ما يراد في صيغة حجة منطقية من قبيل "كل معركة تنتهي بمفاوضات.. لا بد من ممارسة السياسة مع الثورة.. نفاوض ولا نقبل إلا ما يرضينا" وما شابه ذلك.
ليست الإشكالية في تناقض ما بين "قتال" و"تسوية" أو بين "رفض" و"تفاوض"، ولا في اختلاف التعليلات من وراء ذلك، بل هي إشكالية أننا لا نجد أنفسنا في "ثورة واحدة" عند الحديث عن الميدان رغم كثرة انتشار مسميات توحيد الصفوف في جبهات واتحادات وقيادات عليا، وكذلك لا نجد أنفسنا في "ثورة واحدة"، تجمع مختلف قوالب مساعي "التسويات"، بل نجد هنا وهناك على السواء ما يجسد "التعددية المفرطة" إن لم نقل التشرذم الخطير، ورغم ذلك يتحدث كل فريق بصيغة "نحن".
أي إنجاز يريد "بعضنا" تحقيقه، لا يكون إنجازا حقيقيا، ما لم يكن في حصيلته ما تعنيه كلمة "نحن" في الأصل، شعبيا وثوريا ووطنا مشتركا.
لا يتحقق ذلك ما دمنا في كل عمل مسلح أو عمل سياسي أو أي عمل آخر نزعم انتسابه نظريا للثورة الشعبية في سورية، ولكن نتحرك به واقعيا في "ثورات متوازية"، فكيف نحقق "أهدافا مشتركة" لثورة شعبية واحدة؟
بعض معالم واقعنا "الثوري"
أول شرط موضوعي للانتقال من واقع نرصد سلبياته إلى واقع نتطلع إليه، هو استيعاب ما ينبغي أن يتبدل في الواقع الراهن المرفوض، ومن ذلك على سبيل المثال دون الحصر، معالم مرتبطة ببعضها، منها:
أولا: التشرذم على كل صعيد..
بتعبير مخفف "التعددية المفرطة" المناقضة لضرورة المرحلة، فبعيدا عن بحث الأسباب وتدافع المسؤولية، ليس لدينا من يمثل الشعب كله.. ولا من يمثل "الجناح المسلح كله من الثورة الشعبية".. ولا حتى من يمثل جملة "القطاعات السياسية المتكلمة باسم الثورة".
هذا واقع قائم ولن يتبدل سريعا تبدلا جذريا، لماذا؟
هذه المرحلة الثورية مرحلة بداية تغيير، ويستحيل خلالها -أي قبل "الاستقرار" الدستوري- أن يوجد "تمثيل للغالبية الشعبية العظمى" بآليات قويمة، وشروط ضامنة لصحة التمثيل ومشروعيته.
البديل الراهن إلى ذلك الحين: "تمثيل نسبي" حسب درجة ما يتحقق من إنجازات "شعبية ثورية جامعة".
ثانيا: ضياع مردود الأنشطة الانفرادية..
بتعبير مخفف "ضعف المردود" بالمقارنة مع حجم العطاء والمعاناة.
يتجلى ذلك عموما في أنّ كل موقف وكل عمل انفرادي، مثل الدعوة لتفاوض، أو عملية تفاوض مع جهة ما، أو مثل هدنة محلية جغرافيا، أو حتى حملة إنسانية إغاثية، جميع ذلك عمل ذو حصيلة جزئية، لا تخدم مسار الثورة "كله"، وقد يكون له أحيانا مفعول معاكس على المسار المشترك، حتى وإن كان العمل صحيحا بذاته، إذ ينطلق من رؤية ذاتية وظروف محلية ولكن لا يربط موازين الإيجابيات والسلبيات بما تتطلبه "رؤية استراتيجية شاملة"، لم نتوافق عليها، ونادرا ما تنكشف لنا احتمالات الفائدة والضرر، بسبب غياب "تواصل تنسيقي" بدرجة كافية.
الواقع الراهن من وراء ذلك: إنجازات متفرقة.. وانتكاسات متفرقة.. وازدياد فترة التضحيات والمعاناة طولا، رغم زعمنا الحرص على أن كل "عمل انفرادي" إنما نصنعه بسببها.
ثالثا: سوء تسويق ما نعطي وما نريد..
من ذلك غياب "الخطاب الثوري" الفعال، بمختلف وسائل الطرح فكرا وإعلاما وعلاقات.. مما يشمل التعريف بحقيقة المرحلة "شعب.. واستبداد"، "سيادة ذاتية مستقلة.. وهيمنة أجنبية طاغية"، "ثورة حق مشروعة.. وقمع همجي باطل وحصار همجي غاشم".. ويشمل غياب خطابنا الثوري أيضا غياب التعريف الهادف بالمطلوب تعريفا موضوعيا، فلا تكفي العناوين: "حرية.. كرامة.. أمن.. تقدم.. عدالة.. استقرار" دون المضامين: "نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي وفق منظومة قيم ومبادئ" ولا دون تحديد "الآليات العملية" القابلة للاستخدام على أرض الواقع.
أين غاب هذا "الخطاب الثوري" الشامل الواضح، بعد أن بدأت الثورة "الشعبية العفوية" بطرح عناوينه؟..
لكل تجمع، سلمي، مسلح، سياسي، إغاثي، فكري، حزبي، جهاز إعلامي صغير، قد يوصل ما يريد طرحه لمن هم الأقرب إليه أصلا.. وليس إلى جهات فاعلة يريد "إبلاغها" أو "التأثير عليها".
حتى وسائل الإعلام الأوسع نطاقا "نسبيا" كفضائيات ثورية سورية، يعبر كل منها عن توجهات من أقامه ويموله.
ووصلت هذه السلبيات حتى إلى "مراكز الفكر والدراسات" التي ترتبط قيمة عطاءاتها بحيادية منهجية لعملها وعدم التحكم بمدى "فعاليتها" ومن يشتغل فيها ويديرها.
الحصيلة على أرض الواقع: كل يغنّي على ليلاه، ويدعي وصلا بالثورة، أما إنجازه فهو الاقتناع الذاتي بأنه "قال" ما يريد، ولكن إذا صدق مع نفسه، يعلم أنه لم "يحقق" ما يريد.
بعض أمراضنا دون علاج
١- صحيح أن الثورة انطلقت انطلاقة عفوية.. كما نردد باستمرار لنستر "عوراتنا ونواقصنا"..
ولكن صحيح أيضا أنها بعد أعوام دامية عديدة قد آن الأوان أن يتجاوز ما نقول ونفعل حالة "العفوية".
٢- صحيح أننا عايشنا "عقما" في العمل السياسي بل مجرد "العمل الجماعي" على امتداد عقود عديدة أثرت علينا.
ولكن صحيح أيضا أننا جميعا نزعم "الآن" ممارسة العمل السياسي أو الثوري أو الداعم وممارسة العمل الجماعي، ولا يقرّ معظمنا، بمعنى أيّ فريق منا، أننا في حاجة إلى "التعلم" و"التصحيح" و"التقويم" كيلا يبقى عملنا مصابا ملوثا بما ورثناه من حقبة "العقم" الطويلة.
٣- صحيح أن "الحرية" التي نراها محور دوافع الثورة تتضمن حق كل طرف أن يتبنى ما يريد ويعمل له.
ولكن صحيح أيضا أن "الحرية" ما زالت "هدفا"، وأن الحق المذكور يتحقق بعد بلوغ الهدف، وأن من شروط بلوغ الهدف التلاقي "الآن" على قواسم مشتركة وتأجيل التعددية بصدد "بعض" ما نريد إلى أوانه الطبيعي مستقبلا.
٤- صحيح أنه لا بد من الوصول إلى "حالة الحسم" لهذه المرحلة الأولى من طريق الثورة والتغيير..
ولكن صحيح أيضا أنه لا يمكن أن يكون "الحسم" شاملا ليمثل الشعب في "ثورة شاملة" و"أهدافه الشاملة" إذا استمر العمل "المشرذم".. سواء كان في صيغة الحسم بالقوة أو صيغة ما يشبه "الحسم" عبر طرق متعددة للتسويات، ما بين "جنيف" و"موسكو" و"الهدن"، وعبر ائتلاف "رسمي"، أو مجموعات غير رسمية، أو مجموعات ثورية محلية..
بعض متطلبات الحد الأدنى
ليس هذا عنوانا لمطالب الحد الأدنى من الأهداف "الثورية" الشعبية من حرية وكرامة وعدالة ودولة.. فهذه مطالب لا تقبل بطبيعتها اختزالا ولا "تجزئة" ولا زعم قابلية الحصول عليها "بالتقسيط"..
إنما يوجد -على ضوء الفقرات السابقة- عدد من المتطلبات الأولية التي يجب العمل لتوافرها، من جانب كافة من يعتبر نفسه في موقع أداء "دور ثوري"، مسلح أو سلمي أو فكري أو إغاثي أو إعلامي أو تمويلي..
المطلوب هو الإسهام في نشر "ثقافة العمل الثوري" ليمكن لنا أن نمارسه فعلا، ويحتاج طرح المقصود بهذا العنوان حديثا آخر، ولكن يمكن أن نعود "الآن" إلى ما يردده الثوار دوما: الأولوية لإسقاط بقايا النظام.
يعني ذلك:
١- الهدف الثوري المرحلي الحاسم والمصيري في مسار الثورة والتغيير حاليا، هو جمع أجنحة الثورة والحد من التشرذم "العملي" كما يقول معظمنا..
٢- هذا لا يتحقق بأساليب أخفقت فعلا، أي اجتماع قيادات، وإعلان بيانات، وتعديل محدود على الهياكل وبعض المواثيق..
٣- واقعيا أصبح عسيرا التوصل "السريع" إلى "تشكيل موحد جامع وشامل" للثورة ..
٤- يبقى الحد "الفوري" الأدنى وهو "الالتزام الذاتي" الطوعي بأن تكون "الأولوية في مختلف الأقوال والأعمال للتعجيل بإنهاء الاستبداد الهمجي"..
٥- المقصود: مع استبقاء الهدف الأهم وهو توحيد القوى، يجب الشروع "الآن" في أداء الممكن، وأدناه أن يسعى كل فريق في نطاقه من أجل ضبط العلاقة بين واقع العمل الانفرادي.. وواقع المجموع الثوري.
كيف؟
يصعب التخلص فورا من التشرذم والتعددية المفرطة، ولكن يمكن التخلص من بعض أضرارهما الوخيمة، إذا انتشر "الالتزام الطوعي الذاتي" من جانب كل فريق، عندما يقدم على عمل انفرادي، أن يراعي مجموع الوضع الثوري في كافة القطاعات الجغرافية والموضوعية لامتداد الثورة الشعبية.. فيفكر بما يفيدها ويدعمها، ويتجنب ما يسبب إلحاق ضرر بها، ومن ذلك مثلا:
(١) الامتناع عن القبول بهدنة تمكّن الطرف العدواني الهمجي من التركيز على موقع آخر.. فآنذاك تنتشر "الهدن" جغرافيا وتصبح "بديلا" عن الثورة والتغيير وسبيلا لإعادة تصنيع نظام اهترأ واهترأت بقاياه.
(٢) اتخاذ القرار بالتحرك في موقع عند تقدير حاجة موقع آخر إلى تخفيف الأعباء عنه.. فآنذاك لا يفسح بعضنا المجال لانفراد الجبهة الهمجية ببعضنا الآخر، مع حتمية أن يطال ذلك الجميع في النهاية.
(٣) رفض أي شرط خارجي لمعاداة فريق آخر من الثوار، تحت عناوين "مطاطة، مثل "دعم الاعتدال" و"الأولوية لمكافحة الإرهاب".. وإلا فلن يبقى "أحد" في نهاية المطاف، مهما قيل له إنه هو "المعتدل" فمعايير الاعتدال "المعادية" تستهدف الحيلولة دون تحرير الإرادة الشعبية وهو جوهر أهداف الثورة والتغيير، ويقابل ذلك رفض كل فريق منا، القبول بتطرف كما نعرف نحن التطرف بمعاييرنا، ورفض رهن إرادتنا بأي جهة خارج نطاقنا، فإرادتنا هي من إرادة شعبنا، وليست "بضاعة ملك يميننا".
(٤) تجنيد ما يتوافر من وسائل إعلامية مهما كانت محدودة، لنشر "ثقافة" العمل الثوري الجماعي، ومنع التركيز على التوجهات التعددية قبل بلوغ مرحلة استقرار دستورية "تسمح" بها دون خطر التشرذم.
(٥) أما من يعتبر أن مهمته التخصصية هي "التفكير والتنظير والتخطيط" وما إلى ذلك، فهو مطالب أكثر من أي طرف آخر ومطالب في هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضى بالكف عن السؤال الاستنكاري: علام لا تفكرون وتنظّرون وتخططون بل تمارسون الثورة "عشوائيا".. وأن يعتمد هو على تواصله مع الميدان وأهله، لطرح الكيفية العملية، إلى جانب طرحه هو للكيفية النظرية المعتمدة على فكره وتخصصه، من أجل الانتقال من "واقع راهن" إلى واقع مطلوب، يتميز بمحدداته الثابتة: "تحرير إرادة الشعب على طريق الثورة والتغيير من كافة أغلال الاستبداد المحلي وفساده ومن كافة أغلال الهيمنة الأجنبية وموبقاتها".
. . .
كل فريق مخلص للثورة يستطيع أن يلتزم بذلك ولو بقي يعمل انفراديا لمرحلة أخرى من الزمن.. أما من يحرص على القدح والتشكيك والتيئيس والتثبيط، أو يحرص على خدمة نفسه "أولا" أو خدمة أي جهة أخرى بذريعة ما، فهو في نهاية المطاف جزء من "المشكلة" وخير ما يصنع المخلصون هو تجاوزه ومتابعة الطريق.
نبيل شبيب