تحليل – المحور الأمريكي الإيراني
ليس الجديد في مسار تاريخ المنطقة هو تجديد المحور الإيراني – الأمريكي بل ظهور مفعول الإرادة الشعبية في صناعة التغيير
لم يعد الأمر مقتصرا على ما يتعلق بمفاوضات الملف النووي الإيراني، بل أصبحت جميع الدلائل تشير إلى تكوين محور أمريكي-إيراني بأبعاد استراتيجية، يمثل هذا الملف جانبا واحدا منها، بينما ستكون لترسيخ دعائم هذا المحور خلال سنوات نتائج بعيدة المدى.. لا يصعب التنبؤ بها.
منطلقات تجديد محور قديم
(١) تراجع مرتكزات الهيمنة الأمريكية وقدرتها على الانتشار منذ غزو أفغانستان هي نقطة الانطلاق لتثبيت “رؤية استراتيجية” أمريكية معدلة لا تتخلى عن الهيمنة من بين ثوابتها.
(٢) اندلاع الثورات الشعبية العربية عامل حاسم في اتخاذ القرار النهائي وتعجيل الخطوات العملية التنفيذية.
(٣) حصيلة التعامل الحالي مع الملف النووي تربط إيران بمحور أكثر مردودا عليها من اعتمادها حتى الآن على روسيا والصين، كما تخلط الأوراق في مسار العلاقات الغربية – الروسية مجددا.
(٤) لم تعرف السياسة الأمريكية منذ عهد الشاه خيارا حقيقيا بين إيران والخليج، فبالمنظور الأمريكي يمكن أن تتحول أي قوة خليجية مدعومة إلى خطر مستقبلي على المشروع الصهيوني
مؤشرات في أحداث عاصفة
كثير من التساؤلات الجادة تجاه مجرى الأحداث انطلق غالبا من وجود “عداء“ أمريكي – إيراني، وهذا صحيح، ولكن لا يوجد في عالم السياسة “ومبادئها” لدى الطرفين ما لا يقبل المساومة والمقايضة، ولا يصح ربط استعادة المحور الأمريكي – الإيراني القديم، بظهور داعش ثم “التحالف الأمريكي” تحت عنوان الحرب ضدها شكليا بهدف إعادة تشكيل الخارطة السياسية والأمنية في المنطقة واقعيا، فهذه تطورات سبقها ما كان من تمهيد للانتقال بعلاقة “المقاطعة والضغوط” إلى علاقة تذليل العقبات الحالية في وجه تحالف محوري جديد، ومن ذلك.. إضافة إلى تعديل نهج التفاوض حول الملف النووي:
(١) كانت نقطة البداية لاسترجاع المحور القديم عند فرض ما سمي مبادرة الخليج التي أوقفت مدّ الثورة الشعبية في اليمن، ومن العسير التأكد هل بقي خافيا على دول الخليج، أن إسقاط “صالح” اقترن منذ تلك اللحظة بالإعداد لإعادة إنتاج عهده، الأمر الذي اعتمد -كما ظهر الآن- على تحالف بقايا نظامه مع “الحوثيين”، أي اليد الإيرانية الممتدة في اليمن.
أمام هذه الصورة تتلاشى “الحيرة” في تساؤلات متكررة من قبل:
علام لم تتحرك الطائرات الأمريكية دون طيار لدعم الحكومة اليمنية ضد التطرف الحوثي قبل استفحال خطره ومن بعد، كما صنعت باستمرار ضد تطرف القاعدة؟
ما الذي -أو من الذي- منع دول الخليج لا سيما السعودية من أي تحرك ضد الحوثيين، رغم أن سيطرتهم على صناعة القرار في اليمن يهدد أمن الأنظمة الخليجية بصورة مباشرة؟
(٢) العنصر الحاسم في العمل لاسترجاع المحور القديم هو ما يتمثل في التعامل مع الثورة الشعبية في سورية، والحليف الأسدي الإيراني، ويتجلى في الإدانة الصارخة لإجرامه وإجرام أعوانه من أتباع السلطة في إيران، ثم الخذلان الصارخ للثورة الشعبية بل والإسهام في إضعافها بالوعود ونكثها واحتضان المسار السياسي وتعريته، علاوة على التعامل مع ظاهرة داعش، والحد الأدنى الممكن قوله هو رؤية الخطر يستفحل وتجاهله حتى يؤدي مفعوله.
هنا أيضا تتلاشى أمام هذه الصورة الحيرة في تساؤلات طالما انتشرت مقترنة بشعور النقمة:
علام الكيل بمكيالين لاستثناء تنظيمات إجرامية مرتبطة بإيران من التحرك مع جلجلة سياسية وإعلامية وعسكرية ضخمة ضد داعش، بل وسواها مما يعتبر في قلب الثورة الشعبية في سورية، غير المرتبطة بإيران؟
علام الإعلان الرسمي عن عدم التنسيق مع إيران وحليفها الأسدي جنبا إلى جنب مع لقاءات استعراضية للقاءات وزارية ودون ذلك، تؤكد أن التنسيق يجري مع إيران على الأقل؟
معالم المحور المتجدد
في الأيام القليلة الماضية صدرت سلسلة من التصريحات الرسمية الإيرانية، لها مغزاها، وأهمها:
(١) سقوط الأسد يهدد الأمن الإسرائيلي.. وهو ما يذكر بتصريح مشابه على لسان “مخلوف” مع مطلع الثورة
(٢) إيران على اطلاع تفصيلي على تنظيم داعش وتحركاته.. وهو ما ينوه بورقة التعاون الاستخباراتي والعسكري البري
رغم ذلك يبقى للمشهد تفاصيله الأعمق من الحديث عن “محور صهيوني-إيراني” كما يقال أحيانا.
ليس لإيران ولا لبناء المحور الأمريكي المتجدد معها علاقة بالتعامل مع ثورة شعب مصر عبر انقلاب دموي ظلامي مضاد، ولا بالتعامل مع ثورة شعب ليبيا عبر محاولات مستميتة لضرب الثوار بسلاح عدة قوى خليطة تكوينا وتسلّحا وتمويلا من بقايا نظام إجرامي رحل، وقوى إقليمية تدعم، وحملات إعلامية تضليلية مكشوفة.
فمصر لا يراد انتزاعها من مخالب “كامب ديفيد” لحساب وضع إقليمي جديد، ولا يوجد فيها مدخل مناسب لإثارة صراع مذهبي بين سنة وشيعة، ولا حتى لتحويل الصدامات بين مسلمين وأقباط إلى “حرب أهلية”..
أما ليبيا فأبعد ما تكون عن نشر تنظيمات فيها من قبل ما انتشر وصفه بحالش أو ما عرف منذ سنوات بتنظيم الحوثيين..
بتعبير آخر:
لن يمتد الأثر المباشر للمحور الإيراني-الأمريكي المتجدد إلى الجزء الغربي من “العالم العربي” الذي يتربع المشروع الصهيوني بينه وبين الجزء الشرقي.. ولكن:
(١) وصلت المراحل التمهيدية لهذا المحور في “المشرق العربي” إلى إحكام الطوق حول دول الخليج، ولا علاقة لذلك بسياسات الأنظمة القائمة، فالتحركات “الاستراتيجية” الأمريكية تنطلق من أبعاد زمنية تقدر قابلية حدوث تغيير مستقبلي.
(٢) ومنع صمود الثوار في سورية حلفاء إيران من النجاح وحدهم في ترسيخ ما تم زرعه من نفوذ إيراني في سورية ولبنان عبر عشرات السنين، وهنا لم يتردد واضعو “استراتيجية أوباما” للتحالف الأمريكي عن تحرك “مفضوح” أكثر من أي وقت مضى، بالإعلان عن “حدود” تدخلهم الجوي، التي تتلخص في “تثبيت نظام عراقي” حليف تابع لإيران، و”دعم أجنحة على حساب أخرى من القوى الكردية الفاعلة”، و”استثناء بقايا النظام السوري من أي أذى يلحق به عبر التحالف”..
لم تشوّش على ما سبق حتى الآن أي قوة إقليمية يحسب حسابها سوى تركيا، فاقترن عمل التحالف الأمريكي باستهدافها بالضغوط السياسية والإعلامية إلى أقصى درجة.
من يملك التغيير مستقبلا؟
على الصعيد السياسي يراد للمنطقة أن ترزح لفترة طويلة تحت تأثير:
(١) هيمنة صهيونية.. رغم تآكلها أمام ثورة الانتفاضات الفلسطينية
(٢) هيمنة إيرانية.. متنامية في إطار حدود التفاهمات على اقتسام “مناطق النفوذ”
(٣) قوة كردية جديدة.. بدعم متواصل بدأ بغزو العراق ويتعاظم مع “الحرب ضد داعش”
(٤) وتوجد مقابل ذلك قوة تركية.. صاعدة وتزداد استقلالا عن قيود الماضي، ولا تكاد تجد حليفا إقليميا صادقا معها
أما على صعيد مسار التغيير الذي صنعته الثورات الشعبية، وما زال في بداياته، فيبدو:
(١) أن نسبة كبيرة من ثوار ليبيا استفادت من دروس الجوار في تونس (التسامح الثوري) وفي مصر (المكر العسكري) وتأبى التسليم دون متابعة طريق المقاومة لخداع سياسي أو ضربة مضادة مدعومة عسكريا وماليا.
(٢) وأن نسبة كبيرة من ثوار سورية أدركت ما يعنيه العجز (المعذور أو غير المعذور) عن التحرك الثوري الجماعي الموحد، كما أدركت أن الثورة الشعبية في سورية تواجه استبدادا محليا وهيمنة خارجية في وقت واحد، ويبقى السؤال مطروحا حول مدى القدرة على تحويل الصمود الراهن إلى دعم مسار قوة ثورية تغييرية فاعلة.
(٣) كما يبدو أن الدولة الإقليمية الوحيدة المستهدفة مع الثورات الشعبية استوعبت ما يراد لها في الوقت الحاضر، ولا تزال قادرة على الثبات على المواقع التي وصلت إليها ما بين ماضي الارتباط بمنظومة غربية لا يؤمن جانبها وبين تحرر تدريجي من تبعات الماضي، ويبقى السؤال مطروحا عن مدى تمكنها من مواصلة الصمود وترجمته إلى “فعل تغييري”.
الحصيلة
ليس المحور الإيراني – الأمريكي عاملا “إضافيا” في مسار التغيير التاريخي الكبير الحالي، إنما هو جزء من عناصر عديدة لم ينقطع استخدامها، وتبديلها، وتجديدها، للحيلولة دون تحرر الإرادة الشعبية في هذه المنطقة من العالم بالذات، سيان هل حملت حركة التحرر عناوين قومية أو عقدية أو “إنسانية عالمية” كما يقول بعض من يحسن الظن بالواقع العالمي الحالي.
العنصر الجديد فعلا في مجرى الحقب التاريخية الأخيرة هو ظهور مفعول قوة الإرادة الشعبية عندما تتحول من الكمون إلى الثورة، ومن التسليم إلى التغيير، ومن التكيف والتلاؤم مع واقع يصنعه آخرون، إلى العمل المقترن بدفع ثمن كبير من التضحيات والآلام، لصناعة واقع قائم على الإرادة الشعبية، سيان هل يقبل بذلك الآخرون أم يرفضونه.
حركة التغيير ثورة، والثورة تعني -علاوة على التخطيط والتنفيذ وتنمية القوة الذاتية- خوض جولة بعد جولة، والتفاعل المتجدد مع المتغيرات، حتى تتحقق الأهداف المشروعة.. وستتحقق بإذن الله.
نبيل شبيب