رؤية – القواسم المشتركة

رغم اختلاف تطلعاتنا المستقبلية، لا يستقر عمل ثوري إذا منع الاختلاف من التلاقي الآن على قواسم مشتركة

60

تردد في ندوة حوارية مؤخرا ذكر توحيد مسار القوى الثورية في سورية، مما أصبح ضرورة قصوى في مواجهة حملات مضادة ضخمة تمضي – إن تحققت أهدافها – نحو إعادة "تشكيلنا" حدودا مصطنعة وأوطانا ممزقة ودولا هشة ومستبدين همجيين ومضطهدين مقيدين.. وقضبانا تعتقل الإرادة الشعبية المتفجرة في الثورات الشعبية.

وقد طرح أحد المشاركين سؤالا فيه رنّة التوبيخ والاستنكار:

تقولون "يجب".. ولا تقولون "كيف".. فما معنى "توحيد مسارنا"؟

لم يكن في الندوة متسع لأكثر من جواب مختصر حول الشروط قبل الكيفية التطبيقية:

شروط توحيد المسار معروفة: القواسم المشتركة، والقيادات المؤهلة، والتخصص مع التكامل، والرؤية المستقبلية المنهجية، أما المشكلة فهي الانتقال بذلك إلى الواقع التطبيقي.

الجدير بالتنويه أن جلّ ما يصنعه أصحاب الأقلام هو "الإسهام" في محاولة "طرح المطلوب" مع مراعاة "الموجود والممكن"، والمسؤولية بعد ذلك هي مسؤولية صناع القرار في الميدان.. والأمل كبير ألا يبقى الكلام في "قضايانا المصيرية" حبيس الحروف والسطور.

 

الشرط الأول: قواسمنا المشتركة

من أشد التناقضات خطرا على مسارنا الثوري أن معظم المساعي لعمل مشترك يبدأ بكلمة "نريد الاتفاق"، ولكن يليها فورا الحديث حول "مواطن الاختلاف"، فلا نصل أصلا إلى اتفاق.

إن أي عمل جماعي جاد في مسار الثورة يستحيل أن يحقق نجاحا "مستداما" دون أن يبدأ بمواطن الاتفاق والبناء عليها، وهو ما نعطيه هنا عنوان "قواسم مشتركة".

 

المشترك والمختلف

لا يعني العمل المشترك وفق القواسم المشتركة التخلي بالضرورة عن تطلعاتنا المختلفة لصناعة واقع مستقبلي، ولكن لا يمكن أن يستقر عمل ثوري مشترك وينمو إذا جعلنا ذلك الاختلاف سدا في وجه "الحد الممكن والواجب" من التلاقي الآن.

صحيح أن الاختلاف جزء من واقعنا أيضا، سواء كان اختلاف انتماءات أو اتجاهات أو تصورات للعمل الثوري، ولكن معظم فروع الاختلاف قديم متجدد ولن يزول عبر انشغالنا به عن قواسمنا المشتركة، إنما يمكن أن يضمحل "مفعوله السلبي" تدريجيا بقدر ما ترسخ دعائم عملنا المشترك.

 

المنطلق الواقعي

القواسم المشتركة موجودة، لا نصنعها بأنفسنا، بل أصبحت عبر التاريخ واقعا قائما، ونحن ننطلق منه فعلا بحكم وجوده، فمجرد إنكاره أو تجاهله لا يؤدي إلى "تغييبه" أو تغييب مفعوله.

نحن لا نصنع "وطنا" اسمه سورية فالوطن قاسم مشترك موجود كما هو حاليا..

نحن لا نصنع "شعبا" اسمه الشعب السوري فهو قاسم مشترك موجود كما هو حاليا..

عندما ننطلق من هذا وذاك في "ثورة" للتحرر، فمطلب "التحرر" قاسم مشترك نوجده عبر وسيلة الثورة، أي وسيلة تغيير "الجانب الشاذ" من الواقع القائم وهو اغتصاب الوطن واستعباد الشعب.

وبقدر ما ندرك حجم الحدث الثوري الجاري وحجم العمل المضاد له، ندرك أيضا أن أولوية الاعتماد على الإمكانات الذاتية قاسم مشترك آخر لا مندوحة عنه.

 

البدهيات.. والأولويات

بدهيات؟ نعم.

المشكلة أننا ندرك ذلك ولكن نتجاوزه في مسار الثورة.

إن إعطاء محاولات "إزالة الاختلافات" موقع "شرط مسبق" للعمل معا وفق القواسم المشتركة، جعل تلك المحاولات تخفق، وأنتج من الثورة الشعبية الواحدة  – كما انطلقت – ثورات وفصائل وأجهزة ومسارات.

أكثر من ذلك: هذا الخلل في الأولويات يمثل خدمة انتحارية للعدو يقدمها الثوار في ميادين المواجهات المسلحة والسياسية والمدنية وغيرها.. كيف؟

لا يجهل أحد أن في مقدمة وسائل "حرب الاستبداد المحلي والهيمنة الأجنبية" ضد إرادة الشعوب ما يسمى "شق الصفوف".. فهل من خدمة أخطر نقدمها للعدو من أننا لا نشكل "صفوفا" أصلا بل نستبق ذلك فنفرق أنفسنا بأنفسنا، ومن وسائلنا لذلك: التركيز على الاختلافات، بدعوى "حتمية" إزالتها قبل ترسيخ دعائم العمل الثوري الجماعي المستدام المشترك؟

ألا يستحق هذا السلوك وصف "خدمة انتحارية"؟

ألا يتناقض مع كل منطق يفرضه الولاء للثورة الشعبية؟

ألا يعني أننا ضيعنا أبسط مبادئ فقه الأولويات؟

 

مغزى الثورة

الاختلافات قائمة لأنها وليدة تعدد الانتماءات والاتجاهات وتصورات العمل.

يقابلها: الوطن المشترك والشعب الواحد وثورة التحرر بإمكاناتنا الذاتية، فهي قواسم مشتركة بحكم التاريخ والواقع:

الوطن والشعب يشملان الجميع بحكم التاريخ.. والتاريخ "حصل" ولن نغيره!

والثورة التي تحرر الإنسان والوطن تريد أن تحتضن الجميع.. فلا نغيرنّ ذلك!

الجميع: العربي والكردي والتركماني والمسلم والمسيحي والدرزي والعلوي وغيرهم..

الجميع: الإسلامي والعلماني والشيوعي والبعثي، والسلفي والإخواني، واليميني واليساري، وغيرهم..

الجميع: المسلح والمدني والسياسي والمفكر والإعلامي والإغاثي والمشرد والمغترب، وغيرهم..

الوطن لا يلفظ أحدا من أهله، والشعب كله هو أهل الوطن، وثورة التحرر هي لتحرر الجميع.

ولكن.. يُستثنى من ذلك شئنا أم أبينا من يستثني نفسه من الانتساب للوطن والشعب والثورة، عبر إقصاء سواه أو العمل لاستئصاله أو استعباده واستغلاله.. أو ربط "الذات الوطنية" بعجلة تبعية أجنبية.

أليس هذا السلوك بمختلف أشكاله هو جوهر جريمة الأسديين الذين بدؤوا بممارسته وما يزالون يَفْجرون متشبثين به؟

مغزى الثورة هو إسقاط من مزق الوطن والشعب واعتقلهما ودمر خيراتهما.

ومغزى الثورة يضيع.. إذا انحرفنا نحن واعين أو غير واعين، فمارسنا تجاه بعضنا بعضا، بعض ما مارسه ويمارسه المجرمون تجاهنا.

 

العالم الخارجي.. والتواصل

ينبغي أن نستوعب ثوريا:

عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" لا تعني فقط "الأشخاص الهمجيين والمؤسسات الفاسدة"، فهؤلاء أدوات، إنما تشمل أيضا "نوعية" علاقات النظام الإقليمية والدولية التي جعلت هذه الأدوات جزءا من معادلة منظومة الهيمنة والتبعية إقليميا ودوليا.

الثورة بهذا الإطار ثورة على الأدوات الأسدية وعلى "نوعية" علاقاتها الخارجية التي مكنت من استمرار اغتصاب الوطن واستعباد الشعب زمنا طويلا.

هذه ثورة ضد الاستبداد..

هذا الاستبداد جزء من خارطة علاقات إقليمية ودولية مكنته من البقاء مع شذوذه..

الثورة لإسقاطه تشمل تلقائيا سقوط مردود تلك العلاقات على القوى المعنية بها..

بالتالي من السذاجة التوهم أننا سنجد فيها أو منها عونا للثورة..

أما ما يوصف بلغة المصالح وتبديل موازينها فلا ينفي بل يؤكد، أن تحصيل "الدعم" مشروط..

(١) الشرط الأولي أن تظهر عبر الثورة استحالة استمرار الحفاظ على مردود العلاقات الشاذة مع استبداد شاذ.. ولهذا يوصف فجأة بفقدان الشرعية ويبدأ التخلي عنه..

(٢) عندها لا يزول "شرط الدعم" بل يتخذ صيغة أخرى: العثور على بديل يعوّض مردود تلك العلاقات..

(٣) هذا "مستحيل" ثوريا، لأنها علاقات قائمة على اعتقال الإرادة الشعبية، والثورة ماضية لتحريرها من المعتقل.

 

إمكاناتنا الذاتية

لهذا.. ليس اعتماد الثورة على "الإمكانات الذاتية" مجرد "خيار" أو مجرد "شعار" بل هو أمر حتمي لا تكون الثورة الشعبية التغييرية ثورة دونه.

وعندما نقول: الإمكانات الذاتية، نعني: جميع إمكاناتنا سلاحا وسياسة وفكرا وإغاثة وتمويلا وإعلاما وخبرة وكفاءة.. وأملا وألما واستقرارا وتشريدا.

نعني أن تكون جميعا في مسار الثورة، وعند تحقيق ذلك بحده الأدنى تكون "ممارسة التواصل" مع جهات خارجية، وقوى إقليمية ودولية، جانبا من جوانب "خدمة الثورة"، وهي آنذاك:

ممارسة ترفد التغيير عبر الثورة:

حيثما اتفقت بمضمونها وحصيلتها مع قواسمنا المشتركة، وطنا وشعبا وتحررا ودعما للإمكانات الذاتية..

أو هي ممارسة ترفد بقاء الاستبداد عبر ارتباطاته الخارجية، وهو ما تعمل الثورة لتغييره..

حيثما تناقضت مضمونا وحصيلة مع تعزيز قواسمنا المشتركة، وطنا وشعبا وتحررا ودعما لإمكاناتنا الذاتية..

إن الانطلاق من قواسم مشتركة يشمل اعتماد الإمكانات الذاتية وتكاملها، ولا يعني "قطع" حبال التواصل الخارجي، مع أصدقاء حقيقيين ومزيفين ومع أعداء إقليميين ودوليين.. فليس المحظور هو "العلاقات" ولكن المحظور الآن ومستقبلا هو ما يضر بالوطن والشعب والثورة، أي:

المحظور هو إعطاء علاقات التواصل الخارجي الأولوية على علاقاتنا الثورية الشاملة لنا جميعا

المحظور هو إعطاء علاقات التواصل الخارجي منزلة "توجيهنا" بدلا من أن يكون من يمارسها قطعة منا تجسد العمل لأهدافنا ومصالحنا.

 

مستقبل خلافاتنا

صحيح أننا أصبحنا نرصد في واقع الثورة أن الاعتماد أولا على "إمكاناتنا الذاتية" هو أيضا من "قواسمنا المشتركة"..  ولكن لا تؤدي إمكاناتنا الذاتية مفعولها الثوري على الوجه المفروض دون أن تكون "مشتركة" فعلا، وليست إمكانات ذاتية "متفرقة" على فصائل وجبهات ومجالس وائتلافات.

لا يعني ذلك التوهم بقابلية وضعها في "وعاء واحد" نختلف على اليد التي تمسك به، ولكن يعني "تحتيم" تكامل إنجازاتها في "الثورة الواحدة".

كذلك لا يعني سائر ما سبق تخلي أحد عن تصوراته حول "المستقبل" وفق انتمائه أو اتجاهه.. ولكننا نعيش الحاضر.. نعيش الثورة.

وطالما امتدت بنا الثورة وجب التشبث بالقواسم المشتركة "فقط" إلى أن نصل من خلال التحرر إلى "منطلق جديد"، لا يكون فيه الوطن مغتصبا والشعب مستعبدا.

آنذاك توجد قواعد أخرى، تصنعها مرجعية الإرادة الشعبية، للتعامل فيما بيننا مع "تعدديتنا" دون أن نكرر ارتكاب "الجريمة الأسدية" تجاه بعضنا، وهذا ما يشمل آنذاك قواعد التعامل مع "الآخر" من خارج الحدود.

إن ما سبق حول "القواسم المشتركة" هو في مقدمة ما يجب ترسيخه تطبيقيا لا نظريا، كي تتوافر الشروط الأخرى لتوحيد مسار الثورة:

الشرط الثاني: قيادات مؤهلة التزاما وقدرة..

الشرط الثالث: تخصص الكفاءات وتكامل الجميع..

الشرط الرابع: الرؤية المستقبلية المنهجية..

وعندما تصبح هذه الشروط في رؤوسنا وقلوبنا ومساعينا لتوحيد المسار.. نستكشف عمليا كيفية التطبيق.

نبيل شبيب