رؤية – الإنسان في مواجهة المؤامرة الكونية
مسار التغيير الذي فتحت الثورات الشعبية بوابته يتجدد باستعادة تركيزنا على عنصر الإنسان، محور التغيير وصانع التغيير
نعايش هذه الأيام مشدوهين عملية تفتيت كبرى جارية في أوطاننا، ومقترنة بعنف دموي همجي غير مسبوق، وبتطرف في الطرح والسلوك تجاوز كل ما عرفه التاريخ من قبل، وبتواطؤ إجرامي علني كشفته الثورات الشعبية لا سيما في سورية.
معظم ما يجري من إجرام حاليا يجري بأيد تنتسب "لنا"، أو بأيدي عصابات توصف بأنها من بني جلدتنا.. وانعدمت بذلك الحاجة لتسيير جيوش تستعمر، ونشر شركات عملاقة تستغل، وإذا استثنينا ارتكاب الجرائم بأسلوب القصف من طائرات دون طيار، لا نكاد نرصد لدى العدو حتى الحاجة إلى أن يستخدم بنفسه "جوانتانامو" و"أبو غريب" و"باغرام"وما شابه ذلك لارتكاب جرائم يندى لها الجبين وتعافها الفطرة البشرية عند كل من لا يزال "إنسانا“.. جميع ذلك وأمثاله تجاوزه ما يُصنع جهارا نهارا في الشوارع والميادين والمساكن في بلادنا، ناهيك عن المعتقلات وأقبية المخابرات وحظائر الأجهزة القمعية والثكنات العسكرية.
ما الذي أوصل بلادنا إلى هذه الحالة "الانتحارية" المزرية؟
. . .
لا شك في وجود أسباب عديدة، ولكنّ عجلة الدفع الرئيسية وراء ما يجري من انتحار جماعي، تحرّكها طاقة إجرامية همجية من إنتاج عملية هدم قيمية واجتماعية ونفسانية طويلة الأمد.. وكم ذا نستهين بتدمير القيم الخلقية والاجتماعية ومكونات النفس الإنسانية، وما هو بالأمر الثانوي في صناعة الحدث على الإطلاق.
ألم تسبق حرب التفتيت الدموية الحالية حرب الحصار والإقصاء والاستئصال من قبل، ضد من كانوا يحذرون مثلا من مفعول "التغريب والأمركة" على مجتمعاتنا عبر ألعاب الأطفال والأفلام الأجنبية ونشر الإباحية وتفكيك الأسرة؟.. وها نحن نرصد الآن من بين ميادين الحرب الجارية لصناعة "الإنسان"العاجز عن مواجهة تفتيت بلاده وإبادة أهله، مواصلة ما تصنعه فضائيات معروفة ومن ورائها حكومات راعية لها، وجميعهم لا يراعون ولو "مراعاة شكلية" أنين الضحايا في طول بلادنا وعرضها، فكأن أقصى المطلوب لنا هو "أكفان وتوابيت"من صنع "حداثة مزيفة" و"تطوّر مزوّر"!
ألم يستهدف بعض "أهل بلادنا" بعطاءاتهم "الفنية" والثقافية وحتى الرياضية، القضاء على روح الوشائج الجماعية، حتى أصبح الاعتياد على الاشتغال بالمتعة الذاتية من معاول هدم أسس "العقد الاجتماعي" الذي ينادون به، حتى انتشرت "اللامبالاة"على أوسع نطاق.. فكيف نشكو اليوم من "موات" جماهيري، يواكب أحداثا يشيب لهولها الولدان؟
ألم نمزق نسيج بلادنا وشعوبنا عبر ركوننا لأنظمة استبداد وأتباع منتفعين، ينشرون شعارات "الأولوية لهذا البلد أو ذاك" أو لهذا التيار دون ذاك، وكذلك عبر قبولنا بانفراد الاستبداد بكل جماعة من "الآخر"على حدة، للتخلص منا جميعا في نهاية المطاف، فكيف نستغرب مثلا ما عايشناه في مصر مؤخرا، وكانت حصيلته على حساب الإسلاميين والعلمانيين وعلى حساب النخب والشباب والرجال والنساء على السواء؟
ألم يساهم بعض أقلامنا في تدمير مفعول "الوازع الداخلي" عبر شعارات خاطئة مضمونا وواقعا مثل "انتهى عصر الإيديولوجيات"، وفي تدمير مفعول "الحصانة الذاتية"عبر مقولات من قبيل "العلاقات الدولية علاقات مصلحية منفعية" فحسب.. فكيف نتساءل تساؤل الحائرين الآن إذن عن دوافع مواقف معادية وممارسات عدوانية، لا يمكن تفسيرها بحجج عقلانية ولا واقعية ولا مصلحية ولا منفعية، وهي في حصيلتها على حساب الإنسان، جنس الإنسان من شعوبنا تخصيصا وفي عالمنا عموما؟
. . .
قد يتساءل من يقرأ هذه السطور: ما الهدف العملي من هذا الكلام الآن بين يدي ما يجري في فلسطين والعراق وسورية ومصر وليبيا واليمن وغيرها؟
إن اغتيال منظومة القيم والأخلاق الحضارية المشتركة في بلادنا هو "الفيروس" الذي يفعل فعله في أعضائنا الممزقة وأجهزة "جسدنا"الواحد.. ولن يوجد لنا مخرج ينتقل بثورات التحرير من احتلال أجنبي واستبداد محلي وهيمنة دولية في وقت واحد، إلى مرحلة تالية، قبل أن نتخلص بأنفسنا، من جوهر مرضنا الذي نشرناه بأنفسنا في أنفسنا.
إن أول ما ينبغي أن نستعيده في مسار التغيير الجاري في بلادنا ليستقيم مجددا، هو "الإنسان" الذي صنعته دائرتنا الحضارية ودمرته السبل المتشعبة عنها، فهو القاسم المشترك الأعظم بيننا جميعا، من مسلمين وغير مسلمين، من عرب وغير عرب، من إسلاميين وعلمانيين، من النخب والعامة، من فلسطينيين وسوريين ومصريين وخليجيين ومغاربة وعراقيين وسودانيين، بل وجميع من تضمهم الرقعة الجغرافية الحضارية ما بين المحيطات الثلاث.
ولئن تأخر ذلك كثيرا على صعيد جيل على وشك الرحيل فلا ينبغي التهاون في العمل من أجله في صناعة جيل التغيير من الشباب والناشئة والأطفال.
إن الإنسان "المشترك" بيننا، هو الإنسان الذي يساهم بنفسه في صناعة "مجتمعنا" المشترك، وطنا أو بلدا أو دولة أو نظاما أو حزبا أو ائتلافا أو جمعية.. سيان ما هي المسميات، ولن يكون كذلك حقا إلا باعتباره قيمة عقدية وخلقية وقيمية واجتماعية ونفسانية وثقافية وفكرية، وسيان بعد ذلك ما يكون عليه بصفته مخلوقا من المخلوقات ينتمي إلى عرق أو لون أو جنس أو لغة أو بقعة جغرافية أو توجه سياسي أو تخصص من التخصصات.
إن استيعاب موقع "الإنسان" في مسار التغيير الذي نتطلع إليه، والعمل بموجب ذلك، في كتاباتنا ومبادراتنا وتواصلنا ومشاريعنا، ومحاولاتنا المتعددة الميادين جميعا.. هو الشرط الأول للتخلص من أمراض جماعات ثورية، وتجمعات سياسية، ومنظمات إغاثية، وأنشطة موسمية، ونخب فكرية وأدبية وتخصصية.
ونعلم علم اليقين استقراء ودراسة:
ما تحقق تغيير جذري في تاريخ البشرية يوما إلا عبر بوابة صناعة الإنسان أولا، سواء كان ذلك من خلال رسالات الوحي الرباني، أو من خلال حركات "التنوير" البشرية.
ويجب أن نعلم علم اليقين الآن أيضا:
مسار التغيير الذي فتحت الثورات الشعبية بوابته في بلادنا الآن، فواجه ردّة ضربات مضادة من خارج حدودنا ومن داخل الحدود، سيستعيد عافيته وقوته ومفعوله من خلال استعادة تركيزنا جميعا على عنصر الإنسان،محور التغيير وصانع التغيير حيثما تحرك في أي ميدان من ميادين التغيير.
نبيل شبيب