رؤية – مخاطر فوضى المصطلحات في مسارات التغيير الثوري
نحتاج إلى تحديد مضمون آخر، جديد أو متطور.. لتعريف الثورات التغييرية، ومضامين ما نتداوله من مصطلحات ترتبط بها
ليس الكلام عن المصطلحات والمفاهيم "ترفا فكريا" في حضرة "النزيف" الذي نعتصر آلامه في مسار التحرك المضاد للثورات الشعبية، فليست فوضى المصطلحات مشكلة جانبية ولا أكاديمية نظرية، بل تؤثر تأثيرا مشهودا على أحد المرتكزات الهامة لتطوير أداء الثورة نفسه.
الإشكالية
كم من موقف وتصريح وبيان وميثاق تضمن كلمات يقصد صاحبها شيئا، ويفهمها كل طرف حسبما يراه، وقد يتعمد تأويلها على غير ما أراد صاحبها!.. ثم سرعان ما يتحول الخلاف على "كلمات" إلى نزاعات.. تنزف أو تطيل النزيف.
هذا علاوة على إلحاق الضرر بكثير مما له مكانة متميزة، إيجابا أو سلبا، من مصطلحات نتداولها، مثل "أهل الحل والعقد"، أو "الدولة الإسلامية"، أو "الوحدة الوطنية"، أو "الدولة المدنية"، ناهيك عما نستخدمه في التعامل اليومي المباشر داخل نطاق الثورات ومع "الآخر" إقليميا ودوليا.
ببساطة ووضوح:
يتحدث كثير منا مثلا عن "الثورة" نفسها.. فهي شعبية.. أو وطنية.. أو إسلامية.. أو منحرفة.. أو مخترقة.. ويصف كثير منا الدولة المطلوبة فيقول، إسلامية، علمانية، مدنية، بمرجعية إسلامية أو مرجعية علمانية، أو مرجعية الإرادة الشعبية.. وهكذا.
المشكلة هي ندرة أن يكون معنى كل من هذه الكلمات عند سامعها أو قارئها متطابقا مع ما يريد بها قائلها أو كاتبها.
نعلم أن مواجهة "فوضى المصطلحات" قديمة متجددة.. ولن نصل إلى وضع مثالي من التوافق على المضامين، والانضباط في استخدامها وتحديد الموقف الذاتي تجاه كل منها، ولكن "التخفيف" من فوضى المصطلحات وتأثيرها يزداد إلحاحا، لا سيما وأنه بات في مسار الثورات الشعبية، من العناصر ذات التأثير الخطير على صناعة "قرارات" وتنفيذها مما يترتب عليه إزهاق أرواح وتدمير ممتلكات وتأخير النصر المرجو.
ألغام "منهجية"
تتطلب مواجهة فوضى المصطلحات "الدراسة والبحث" ولكن يختلف هذا في حقبة "استقرار" عن حقبة "تغيير" ترتبط بتلك المصطلحات، اختلافا جذريا، وهذا ما لا نرصد مراعاته إلا نادرا في هذه المرحلة من مسار التغيير الذي بدأ بالثورات الشعبية العربية، رغم أنها حاسمة للغاية في تحديد "وجهة" التعامل مع المصطلحات.. هل تتماشى مع "وجهة" التغيير، أم تتحول إلى كابح من الكوابح العديدة التي تعترض التغيير.
توجد وجهات نظر قيمة يرددها من يرون أن "الرجوع" إلى المضامين المتعارف عليها سابقا، شرط أساسي لفهم بعضنا بعضا.. وتقديم خدمة لمصلحة الثورات وتحقيق أهدافها.. ولكن:
ما معنى "متعارف" عليها سابقا، وسارية المفعول لدى الخبراء والمتخصصين؟
إن كانت كذلك.. علام لا يظهر أثر "التعارف" عليها بيننا؟
هل هو فعلا الجهل والتخلف والقحط كما يردد بعضنا، أم أنها لا تعبر "عنا" وعن احتياجاتنا ولا واقعنا ولا تطلعاتنا، لأننا من الأصل لسنا "جزءا" من الذين "تعارفوا" عليها؟
يوجد عدد من الألغام في الدعوة للرجوع إلى "السائد" من تعريف "مصطلحات" نتداولها ونناقض بما نقصد بها ذلك "السائد" حولها.. ومن هذه الألغام:
١- المصطلحات المقصودة هي من ميادين العلوم الإنسانية وليس العلوم المادية مثل الهندسة والطب والكيمياء.. وليس تعريف هذه المصطلحات "جامدا" لا يتبدل عبر التاريخ، بل يتطور في نطاق كل حدث تغيير كبير، فلا يستقر مضمون جديد إلا بعد ذلك الحدث، الذي قد يشهد ولادة مصطلحات جديدة أيضا، فإذا أخذنا التعريف "القديم" على أنه مسلّم به، يمكن أن يتحول إلى قيد فكري على إبداع الجديد الأنسب لسيولة جارية أثناء حقبة تغيير تاريخية.
أقرب مثال لذلك مصطلح "ثورة" الذي لم ينتشر إلا بعد سلسلة ثورات اعتبرت وليدة عصر التنوير الأوروبي، واتخذ مضمون المصطلح ما يعبر عن تلك الثورات في حينه.. فهل يعني ذلك أن ما انطلق في بلدان عربية الآن، في ظروف ومعطيات مختلفة جذريا، لا يكون "ثورة" إلا إذا كانت معالمه كمعالم تلك الثورات ووفق ما قاله "مؤرخوها" من بعد؟
ألا نحتاج إلى مضمون آخر، جديد أو متطور.. لتعريف الثورة، مثلما صنع جيل من الباحثين والمؤرخين قديما، قد عاصر بنفسه "ثورات سابقة" أو ظهر بعدها؟
٢- لا يمكن تجريد مضامين المصطلحات "السائدة" في العلاقات البشرية، عن مفعول الحقبة الحضارية التي تولد فيها أو تتطور وتنتشر.. ولهذا نجد أن معظم المضامين التي يريد بعضنا "الرجوع" إليها مرتبطة ارتباطا مباشرا بمحددات الحضارة المادية الغربية الحالية، والتي لم ينقطع سعي مفكريها وساستها عن محاولة اعتبار هوية "مفرداتها الغربية" هي "الهوية الإنسانية" المشتركة للبشر، وهذه محاولة تصنعها "الهيمنة الحضارية" كما نرى رأي العين، وليس "العنصر الإنساني المشترك" في الأسرة البشرية.
٣- يفقد العمل لمواجهة فوضى المصطلحات مفعوله، إذا انفصل "الباحث" المعاصر، أثناء مسار التغيير التاريخي الجذري، عن اللحظة الآنية التاريخية، وهذا ما يحدث عندما يقتصر التعامل معها من جانب "الباحثين" على "إرثهم المعرفي" من حقبة سبقت بداية التغيير الجديد، فلا يتفاعلون مع ما يوجده واقع مسار التغيير من بذور "إرث معرفي" مستقبلي جديد أو إضافي لما لديهم.
شروط "تغييرية"
لا يفيد التعامل "أكاديميا" مع المصطلحات ذات التأثير في واقعنا الحالي، أي واقع مسار التغيير الذي صنعت الثورات الشعبية بداياته الأولى.
مثل هذا التعامل مهمة "مستقبلية".. يصلح لفترة قادمة بعد استقرار الدعائم الكبرى لحصيلة التغيير، أما الآن فنحتاج إلى النظر معا في تعامل وتفاعل "حيّ" على مستوى آخر.. لرؤية معالمه الكبرى، ومنها فيما يراه كاتب هذه السطور:
١- في الوقت الحاضر.. أي أثناء خطواتنا الأولى على طريق تغيير جذري كبير.. نحتاج إلى ضبط مبدئي للمصطلحات، بالقدر الذي يحتاج إليه ضبط مسارها نحو تحقيق أهداف التغيير.. وليس الرجوع إلى حالة "سابقة" قبل اندلاعها.
٢- في الوقت الحاضر.. أي أثناء الثورات الشعبية، بغض النظر عن فترات توهجها أو انقباضها.. نحتاج إلى تعامل "الباحث" مع المصطلحات دون أن ينفصل وراء "جدرانه الأكاديمية" عن استخدام "الشعوب الثائرة" لها.. لا سيما وأن جوهر "تعريف" المصطلح هو أن يحدد بصياغة "الباحثين المتخصصين" صياغة واضحة وقاطعة الدلالة ما أمكن، لمضمون ما "يتعارف" الناس عليه، وليس "ابتكار" مضمون ما، خارج نطاق "حياتهم الواقعية" فلا يمكن "فرضه" عليهم أو تعويدهم عليه.
٣- في الوقت الحاضر.. أي أثناء المواجهة بين واقع محلي وإقليمي وعالمي يتشبث بما قبل الحدث التغييري وبين من انفرد بهم الميدان في صناعة التغيير.. نحتاج إلى التوافق على "مصطلحاتنا" على أرضية التوافق "الثوري التغييري"، الذي يمكن أن يراعي وجود "مضامين أخرى" لدى "الآخر" إقليميا ودوليا، لمصطلحات نستخدمها.. ويستخدمها الآخر، ولكن هذه المراعاة الواجبة لا تعني "القبول" تلقائيا بما لديه، لا سيما عندما يتعارض مع ما نعتبره أهدافنا الثورية التغييرية المشروعة، بل ينبغي أن تكون المراعاة بقصد التأثير عليه.
٤- ينبغي أن "يتواضع" العالم الباحث دوما، وأثناء مسار التغيير الثوري تخصيصا.. ومن ذلك أن يبتعد عن تأويل عدم قبول أطروحاته بأنه هو الأكاديمي المثقف الفاهم وأن الرافضين جاهلون متخلفون متعصبون، فليكتب ما شاء لنفسه وأقرانه.. أما -نحن العامة- فنحتاج أطروحات منهجية.. "مفهومة لدينا".. من خلال التعبير المناسب والأسلوب المقبول.. ليس بمقياس "بلاغة" الكاتب وعلوّ كعب مكانته، بل بمقياس "استيعاب" من يريد هو أن يستفيدوا من طرحه.. خارج ما يسمّى "البرج العاجي".
نبيل شبيب