تحليل – إلى الإعلام الثوري في سورية

ما زال الإعلام الثوري في سورية جنينا لم ينضج أو يرشد بعد، وهذه "ميزة" إذ تؤهله أن ينمو نموا صحيحا، وربما ساهم مستقبلا في تقويم "الإعلام الناضج" التقليدي

63

أيها القارئ الكريم، أيتها القارئة الكريمة، لا سيما من قلب مسار الثورة الشعبية في سورية.. أزعم أن الإعلام الثوري في سورية قادر على القيام بمهمة جليلة وكبيرة في هذه المرحلة، ولكن اسمحوا لهذا القلم أولا أن ينوه برجاء الصبر إذا شرع „يتفلسف“ في البداية قليلا قبل أن يخوض في الموضوع.

 

في فلسفة المفاهيم والإعلام

الكلام وسيلة للتفاهم.. هذه بدهية، أن يقول أحدنا كلمة ويقصد بها مضمونا ويسمعها آخر فيعلم المقصود، وقد ابتكر علماؤنا الأوائل تعبير "مواضعة“ بمعنى ما تواضع (توافق) عليه الحكماء، أي المتخصصون في الميدان الذي تنتسب الكلمة إليه، والمواضعة هي "المصطلح“ حديثا، أي ما اصطلح المتخصصون على مفهوم محدد لمضمونه.

والإعلام في الأصل هو نقل معلومة تتطابق مع الواقع، أو رأي يعبر عن صاحبه، وعدم الخلط بينهما خلطا يسبب الالتباس.. هذا بغض النظر عن تطور تقنيات وسائل الإعلام، وقد بات يشمل المقروء والمسموع والمرئي، بأدوات لا يكاد يحيط بها ولا بالتداخل فيما بينها حتى من ابتكروها أنفسهم.

 

عصر ثوري دون مرجعية

نعايش منذ فترة طويلة فوضى في المصطلحات ومفاهيمها وتوظيفها وفوضى في الإعلام وأساليبه وتوظيفه، ونعايش الآن المراحل الأولى من "ثورات الربيع العربي“، ومن طبيعتها أن تشهد ولادة مفاهيم جديدة وتعديل السائد سابقا، كما يتبدل تعامل الناس معها.

ليس هذا بسيطا، فالثورات تصنع قفزة نوعية في مسار التاريخ وفي الواقع الذي يشهد أيضا قفزة نوعية في عالم الإعلام. ولأن الثورة هي حالة تغيير في مختلف الميادين.. لا يمكن أن يكتسب شخص أو جهة موقع المرجعية "الآن“، سواء في ترسيخ المفاهيم أو في مواكبة الإعلام لها، وإن برز دور توجيهي طاغ لهذه الوسيلة أو تلك لفترة من الزمن.

النتيجة:

أصبحنا نجد كيف يعطي من شاء ما يشاء من المضامين لكلمات يلقي بها وكأنها "مصطلحات منضبطة“، وما هي بذلك، ولا يمكن لكل منا أن يبين ما يقصد من كلمة شبه اصطلاحية، وإلا طال الكلام في فترة تشهد ندرة قراءة نص بكامله إذا تعدى بضعة سطور.

هنا يأخذ الإعلام عموما، والمرئي فضائيا وشبكيا بسبب مفعوله الطاغي، دورا بالغ الخطورة، سواء كان هذا الإعلام "ناضجا“ من حقبة ما قبل عصر الثورة، فيراعي أو لا يراعي مسارها التغييري، أو كان "جنينا“ لم ينضج بعد لأداء رسالته على الوجه الأمثل، وإن ولد في رحم الثورة فبات يكتسب ثقة الشعب الثائر أكثر من سواه.

 

أمثلة

اليوم (٢٠ / ٤ / ٢٠١٤م ) قبيل كتابة هذه السطور.. كان مراسل فضائية عربية متميزة، يتحدث عن مشاهد تدمير براميل بقايا النظام لمناطق "سكنية" ونزوح أهلها "المدنيين“ في شمال حلب، ولكنّ الشريط الإخباري المتحرك أسفل الشاشة، والباقي لأعين المشاهدين فترة زمنية من قبل رسالة المراسل ومن بعدها.. كان يتحدث عن "قوات النظام" التي توجه ضرباتها إلى "مواقع المعارضة المسلحة“.

هذا مثال واحد على كيفية صناعة "الوعي" أو "المزاج" أو "الموقف الشعبي" أو "الرأي العام"، مع تزييف المضامين من خلال استخدام كلمات في مكانة "مصطلحات“.

فالثورة.. أزمة، والثوار.. معارضة، والمناطق السكنية.. مواقع، وهكذا..

ونجد أيضا من إعلام اللحظة الراهنة حول الثورة في سورية:

يتقدم ثوار ليسوا تحت قيادة "الأركان" ويقال في فضائية معينة: تقدم "الجيش الحر"..

يتراجع ثوار عن موقع ما فيقال في الفضائية نفسها: تراجعت "الكتائب الإسلامية"..

وتقع مواجهة مسلحة بين "داعش" وسواها فيقال: الاقتتال بين فصائل جهادية..

ويردد الثوار أخبار تكرار استخدام السلاح الكيمياوي.. فيأتي التركيز على تصريحات رسمية أنه تم تسليم/ تدمير ٨٠ في المائة منه ويمكن استكمال الباقي في الموعد المقرر.

 

لا يوجد إعلام حر 

لا جديد فيما سبق، إنما هو نوع من تصنيف الأدلة على عدم وجود إعلام "بريء" أو حر بمعنى الكلمة، ولكن يوجد جيد وأقل جودة، وسيئ وأشد سوءا. فلنربط بين كيفية اختيار المفردات وأساليب الإخراج وحتى توجيه الحوارات مع خبراء "ومتخصصين" مختارين، وبين ما نعرفه عن خلفية هذه "الفضائية" أو تلك، لينكشف لنا حجم تأثير "الهدف السياسي الإقليمي وربما الدولي" على "الرسالة الإعلامية" وبالتالي تحويل الوسيلة الإعلامية إلى أداة سياسية.

ليس فيما سبق "اتهام تخوين"، فكثيرا ما يصنع القائمون على تلك الوسائل ما ينطلق من اقتناعاتهم أنه هو الأصوب والأفضل، وهنا الإشكالية:

كيف يعود الإعلاميون التقليديون، إلى "رسالتهم" الإعلامية، ويلتزمون فيها مهمة نقل الواقعة صحيحة كما هي، وإبداء الرأي باعتباره رأيا وليس "معلومة"، والتزام الأداء الإعلامي الذي لا يخلط حابل المعلومة بنابل الرأي، ولا الرسالة الإعلامية بالمآرب السياسية والمحركات التمويلية؟

مع الاقتناع بضرورة هذه الخطوة، نعلم أنها "مستحيلة" حاليا.

  

هل من أمل في الإعلام الثوري؟

ما زال الإعلام الثوري في سورية جنينا لم ينضج أو يرشد بعد، وهذه "ميزة" إذ تؤهله أن ينمو نموا صحيحا، وربما ساهم مستقبلا في تقويم "الإعلام الناضج" التقليدي.. هذا رغم ما يكمن وراء الأخير من إمكانات توجيهية وتمويلية ومهنية ضخمة.

ما المطلوب لذلك؟ الحديث هنا عن خطوة واحدة أولى.

ندع جانبا ما تخضع له وسائل إعلام تقليدية من "توجيه إعلامي سلطوي" بأسلوب "الأوامر".. ونرصد أن وسيلة الإعلام المعتبرة، تعقد جلسة تحريرية يومية، تقرر "اتجاه الريح" يوميا من حيث اختيار المصطلحات والمفردات الإعلامية، ومن حيث أولويات الاهتمام بخبر أو رأي أو موقف، مع تضخيمه أو التهوين من شأنه أو حتى إهماله.

المهم جوهر الفكرة:

للممارسة الإعلامية المهنية ضوابط "مرسومة" تحريريا. 

لا تستطيع وسائل إعلامية ثورية "جنينية" تأمين ذلك بصورة مثالية، ولكن لا ينبغي أن يغيب غيابا كاملا، وفق قاعدة ما لا يبلغ كله لا يترك جله.

لا بد مثلا من أن تنشأ تدريجيا "قائمة مصطلحات ثورية" يجب التزامها و"قائمة مفردات مبهمة وتضليلية" يجب تجنبها، مع العمل قدر المستطاع على شرح المقصود وتعميمه ومراجعة ما يراد نشره وفق ذلك، والتأكيد على أصحاب الأقلام أن يستخدموا المطلوب وينشروه، ويتجنبوا ذكر المحظور إلا في حدود بيان خطره.

لا بد أيضا من خطوات أخرى كثيرة، تحتاج مقالا آخر، فليس هذا القلم واثقا من أن القارئ يقرأ حتى خاتمة هذا المقال "الطويل" في نظره. وبالمناسبة.. هذه "عادة" حديثة نذكر بعضنا بعضا بها، وكأنها بدهية وليست بدهية، أو كأنها أمر جيد محمود، وما هي كذلك، فقصر المقال جيد أحيانا وطوله جيد أحيانا أخرى، وهذا وذاك مرتبط بطبيعة الموضوع والهدف من الكتابة حوله، فلا ينبغي التعميم!

بل إن القراءة الهادئة المتمعنة، وحتى إعادة قراءة بعض المقالات وإن طالت، شرط ضروري للرجوع إلى رسالة الإعلام وتوظيفها في خدمة قضية، لا سيما في خدمة "تغيير تاريخي" للأنفس والأوضاع عبر ثورة تغييرية كبرى.

أليس تحقيق ذلك جزءا من واجب الوفاء لمن يقدمون التضحيات أرواحا وجراحا ومعاناة؟

نبيل شبيب