تأملات – الطوائف والطائفية
لا توجد إشكالية في التعدد الطائفي أما التعصب فهو الطائفية وهو من صنيع الاستبداد وأدواته
كما هو الحال مع تعدد الانتساب القومي أو القبلي لا توجد مشكلة في وجود طوائف دينية في بلد من البلدان، ولا يقتصر ذلك على البلدان العربية والإسلامية، فمعروف أن الكاثوليكية مثلا، تضم مئات الطوائف تحت هذا المسمّى، إنما المشكلة مشكلة التعصب لأي طائفة أو عرق أو قوم.
ومشكلة الحساسيات المرتبطة في سورية بكلمة "طائفية" مشكلة حديثة النشأة نسبيا، اصطنعت اصطناعا، وجرت تغذيتها عمدا خلال خمسة عقود مضت، ولو أردنا العودة بها إلى حقبة تاريخية سابقة، فلا ينبغي إغفال ما أثاره الغزو الاستعماري الغربي من عصبيات بطرحه شعار حماية الأقليات.
إنّ استمرار وجود جميع الطوائف القديمة من مختلف الأديان في مختلف البلدان الإسلامية ومنها سورية عبر قرون عديدة، مع وجود معابدها وتعاليمها وأتباعها، هذا وحده دليل كاف على عدم وجود جذور تاريخية قديمة للتعصّب وإن وجدت جذور للنزاعات السياسية.
ولم تعرف البلدان العربية والإسلامية قطّ حروبا من قبيل ما عرفته أوروبا واشتهر بحروب المائة عام، وحروب الثلاثين عاما وحملات الإبادة ضدّ أصحاب المعتقدات الأخرى.
في سورية الثورة تحديدا، الآن وبعد انتصارها، لا توجد إشكالية في ذكر وجود طوائف بعينها أو في عدم ذكرها من حيث الأساس، إنّما الإشكالية في ربط ذلك بأغراض التعصب أو العداء.
يكفي عادة تأكيد الدستور العام على المساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين، ولكن بعد ما صنعه العهد الاستبدادي خلال خمسة عقود مضت في سورية ينبغي طرح مسألة التنوع الطائفي -كالتنوع القومي- طرحا موضوعيا واضحا وصريحا، وتفصيليا، ولكن دون تشنّج، مثل شعارات تقول بطمأنة الأقليات من جانب الغالبية، مع أن الغالبية وهي المسلمون السنة، لم يكونوا في الحكم بل هم أحوج إلى ما يطمئنهم.
المطلوب وصول الجميع ومن أجل الجميع إلى صيغ واضحة، بهدف دستوري وقانوني واجتماعي، ولغايات وطنية وإنسانية مشتركة، تشمل:
ضمانات غير قابلة للتعديل عبر تقلب الغالبيات السياسية والحزبية، تشمل تثبيت حق القدرة على ممارسة الحقوق العقدية والثقافية الخاصة بكلّ طائفة على حدة، مع الذكر الصريح لتلك الطوائف، وما تعنيه حقوقها على صعيد المعابد والأنشطة الثقافية والاستخدامات اللغوية والمعاملات الشخصية الأسروية وغير ذلك.
وليس في الثورة ما ينذر بشرور تعصب طائفي رغم كلّ ما سبقها، وما يجري استغلاله أثناء محاولات قمعها.
نعلم من مسار الثورة بانتشار مصوّرات ذات بعد طائفي، ولكن لا يصل عددها إلى العشرات من بين مئات الألوف من المصورات عن أحداث الثورة البطولية وما تشهده من مآسٍ يومية.
نعلم بانتشار مقولات ذات مضامين طائفية في الشبكة العنكبوتية، ولكنها جميعا لا تمثل شيئا يذكر بالمقارنة مع حجم ما يقال ويكتب من منطلق اتجاهات تعبر عن الشعب الواحد، والمواطنة المشتركة، وتأكيد عنصر العدالة وشروطها.
إن تسليط الضوء إعلاميا وسياسيا على هذا النزر اليسير بحدّ ذاته، يستهدف عمدا التضخيم من شأنه، وهو ما تتلاقى عليه أطراف خارجية دولية تقول إنّها تريد أن يسقط النظام الاستبدادي، مع ما يريده ذلك النظام الهمجي نفسه من إثارة مختلف أشكال الصدام بين مكوّنات الشعب الواحد، متوهّما أنه سينجح عبر ذلك في الحفاظ على استبداده واغتصابه للسلطة.
من دوافع ذلك التضخيم تبرير امتناع القوى الخارجية عن أداء واجب الدعم الحقيقي الفعال لمطالب الشعب الثائر رغم ما يقع من المآسي، وهو تبرير موجّه للرأي العام في البلدان المعنية، وربما كان من الدوافع أن يتحوّل مسار الثورة في اتجاه صدامات بين فئات الشعب الواحد لتسهل الهيمنة الخارجية على الجميع.
. . .
إنّ الملاحقة الأعظم للإسلاميين خلال العقود الماضية لم تستهدف المتشدّدين والإرهابيين بقدر ما استهدفت كلّ إنسان يعارض الاستبداد.. بمختلف وسائل المعارضة المشروعة من منطلق إسلامي وغير إسلامي.
ويجب أن يكون واضحا لمن يشيعون الحديث عن مخاوف من دين الغالبية في سورية على سواهم، كما يجب أيضا أن يكون واضحا لمن يدعو إلى التشدّد من المسلمين أنفسهم.. يجب أن نعلم جميعا:
لا يوجد في الإسلام تمييز بين إنسان وإنسان في الكرامة (ولقد كرّمنا بني آدم) ولا في الحرية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) ولا في العدالة (وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل) ولا في الحقوق المادية (كلا نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربّك محظورا).. بل لن نجد في النصوص الشرعية القرآنية والنبوية (الملزمة للمسلمين بمن فيهم الإسلاميون الحركيون والإسلاميون المفكرون والإسلاميون السياسيون والإسلاميون الاقتصاديون).. لن نجد في تلك النصوص ذات العلاقة بالحقوق والحريات والحكم نصا واحدا لا يشمل الإنسان، جنس الإنسان.
ويوجد بالمقابل تنديد شديد بالتطرّف والعدوانية والتعصب: (ما شادّ الدين أحد إلا غلبه).. (هلك المتنطعون).. وسوى ذلك من أـحاديث صحيحة عديدة.
وأقول للمسلمين تخصيصا: ينبغي أن نكون منهجيين موضوعيين في العودة إلى مصادرنا الملزمة الثابتة، لا أن يجرّنا ما صنعه النظام الاستبدادي الأسدي إلى ردود فعل تبتعد بنا عن ثوابتنا وقيمنا ومبادئنا ومعتقداتنا، فينجح في تشويه حياتنا بعد سقوطه أيضا.
أمر آخر جدير بالتأكيد أنّ وصف هذا النظام بالطائفي وصف غير دقيق، فأركانه – أو كبار مجرميه – لا يرتبطون منذ نشأته الأولى بطائفتهم من العلويين تحديدا، إلا ارتباطا قائما على هدف واحد، هو استغلال الانتماء الطائفي لتجييشه في خدمة الاستبداد، وهذا ما انزلقت إليه نسبة لا بأس بها من المواطنين العلويين، فلا ينبغي الاستهانة بذلك إنما لا ينبغي التعميم أيضا، فمن لا يخضع لذلك التجييش الاستغلالي المستمرّ منذ أكثر من أربعين سنة، يتعرّض هو أيضا للاضطهاد والقمع والتعامل الهمجي كسواه من المواطنين من الفئات الدينية والقومية والاجتماعية المتعدّدة، ويقول كثيرون باسم الثورة: من لا يبرّئ نفسه الآن من هذا المسلك الاستبدادي الخطير على سورية شعبا ووطنا وحاضرا ومستقبلا، فقد يفوت عليه هو أوان التبرّؤ عند سقوط بقايا عصابات النظام الإرهابية المتسلّطة على الجميع، ولكن لا ينبغي إلقاء هذه العبارة على سبيل التهديد والوعيد، فالعدالة – وهي محور هدف الثورة – فوق كل اعتبار آخر، والخوف مشروع كسبب لعدم إعلان التبرّؤ، ولكن لا يمثل سببا مشروعا للمشاركة المباشرة في ارتكاب ما يرتكبه المجرمون المتسلّطون.
إن نظام العصابات الأسدية نظام طائفي من حيث فكرة الاستغلال الطائفي التي يستند إليها، وطائفي من حيث صبغة الممارسات العدوانية الهمجية التي يمارسها، أمّا أن يقال هو طائفي بمعنى الالتزام بتعاليم تختلف عن تعاليم طوائف أخرى، فقول مردود، ونعلم أنّ مثل هذه الممارسة مضمونة بحرية العقيدة، فلا إكراه في الدين، ولكم دينكم ولي دين، ولكنّ الواقع هو أنّ الاستبداد لا دين له، بل لا انتماء له للشعب بمختلف طوائفه وقومياته واتجاهاته العقدية والفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية على السواء.
نبيل شبيب