نصوص تسجيلات – الوحدة الوطنية
الاستبداد يحتكر الوطن فينتهك الوحدة الوطنية
لا يمكن الحديث خلال دقائق عن قضية كبرى كالوحدة الوطنية، المصطلح الذي ينطوي على مضامين مصطلحات كبرى عديدة، كالوطن، والمواطنة، والذات والآخر، والأمة، والشعب، والدولة.. فأعتذر مسبقا إن كانت هذه الحلقة أطول قليلا من حلقات سابقة في سلسلة قاموس الثورة.
ونلاحظ أن كلمة الوحدة الوطنية لا تتردّد كثيرا في الدول المستقرة سياسيا، رغم تعدّد الانتماءات والأحزاب والخلافات، بينما كثيرا ما نسمع في أقطارنا العربية والإسلامية دعوات الوحدة الوطنية، وهي مطلوبة لدرء خطر خارجي، ومرفوضة عندما يريد بها بعض السياسيين والحزبيين انصياع "الآخر" لتصوّره هو عن "الوطن المشترك"، وإلا كان عدوّا أو خائنا أو متآمرا.
أو ليس هذا ما تعنيه مثلا عبارة "تحت سقف الوطن" التي تردّد ذكرها كثيرا على ألسنة الجهات المتسلّطة في سورية أثناء الثورة الشعبية؟
الوحدة الوطنية مفهوم قائم على أرض الواقع سواء وجدت سلطة قويمة أو مستبدّة، إذ يعبّر عن ثوابت، سياسية نتيجة الاندماج وفق إرادة مشتركة، وثقافية نتيجة معطيات جغرافية وتاريخية ولغوية وغيرها. والدعوات إليها لدرء خطر خارجي أو فتنة داخلية، دليل على الشعور بوجودها والاستنجاد بها، أو العمل على تحريرها من الاستبداد.
لا يتناقض ذلك مع الانتماءات السياسية.. فالمواطن السوري مثلا يمكن أن يكون عربيا أو كرديا أو سوى ذلك من حيث قوميته، وأن يكون مسلما أو مسيحيا أو غير ذلك من حيث معتقده.. ما دام انتماؤه الثلاثي، الوطني والقومي والعقدي لا ينطوي على إكراه الآخر.. كما يصنع الطرف المستبدّ في الوطن المشترك، لا سيما إذا أصبح من نوعية ما عرفته سورية حديثا، استبدادا متوارثا عائليا أو حزبيا أو بأي صفة أخرى.
إنّ الوحدة الوطنية في سورية تقتضي إدراك الجميع وإقرارهم باستحالة اختزال تاريخ سورية عبر آلاف السنين في نطاق بضعة عقود من التسلّط بعبارة تزعم حق قيادة المجتمع والدولة من جانب أي طرف.
شعب سورية بمفهوم الوحدة الوطنية هو -كسواه من الشعوب- نسيج وطني متعدّد الألوان، لا يقبل إخضاع ألوانه وخيوطه للون واحد أو خطّ واحد، مهما زعم من يمارس ذلك أنّه يريد أن يكون الآخرون.. تحت سقف الوطن.. كما يراه هو.
لا خطر على الوحدة الوطنية في سورية أو سواها إذن بسبب تعدّد الانتماءات.. بل يكمن الخطر في اعتقالها التعسفي عبر ارتكاب جريمة الاستبداد. فالاستبداد يعني أنّ انتماء من الانتماءات، يحتكر الوطن، وبالتالي صناعة القرار وفرضه على الجميع، وهذا ما يستحيل أن يجتمع مع كلمة الوحدة الوطنية على قاسم مشترك. مقابل الحاضنة الوطنية الجامعة لكل ما يوجد فيها من الأصل، وليس لمن ينتحل الوصاية على من يمكن أن يكون فيها أو لا يكون، وهذا ما يسري على الأكثرية بأي مقياس، وعلى الأقليات بأي معيار.
ومن هنا لا يكفي لتحقيق هدف الثورة الشعبية في سورية، إلغاء الشكل الراهن من الاستبداد، بل يجب استئصال فكرة الاستبداد من جذورها، أي منع نشأة أي ثغرة جديدة تمكّن أي انتماء من احتكار الوطن في قبضته.. وآنذاك نستعيد الحاضنة الوطنية المشتركة المفتقدة، ونرسّخ الوحدة الوطنية ونطهرها من التشويه والتزييف والاختزال.
وألخص ما سبق في القول:
ليست الوحدة الوطنية دواء مؤقتا لمواجهة خطر بل هي منطلق موجود يرسخ واقعا تعدديا في حاضنة وطنية مشتركة، لا تتناقض مع انتماءات قومية أو عقدية أو سياسية، وتتجسد في إرادة مشتركة محررة من نهج الإقصاء والاستئصال والإكراه، وتقوم على ترسيخ ثقافة وحدة ما يسمّى الذات والآخر على محور المواطنة.
والله من وراء القصد.. والسلام عليكم ورحمة الله.
نبيل شبيب