ذاكرة مغترب – إلى أهلي الأحبة في سورية

مع الألم في أعمق الأعماق يتجدّد الأمل أنّ العودة بعد الغربة القسرية قد دنت.. إن بقيت فسحة من العمر

51

(من الأيام الأولى لانطلاق الثورة الشعبية في سورية)

 

أهلي الأحبة في سورية.. اشتقت إليكم..

اشتقت إلى "السيران" نقضيه لساعات في الغوطة تحت أشجار الزيتون والمشمش، على ضفاف جدول ماء يروي خضرتها وأزاهيرها..

اشتقت إلى "مشوار" معكم عند نبع بردى، في بقين أو مضايا أو الزبداني..

اشتقت إلى "عرانيس الذرة" نقضمها عند سفح قاسيون.. وصوت "المسحّر" في ليالي رمضان.. وصخب "بائع الخضار" في الأزقة والحارات..

اشتقت إلى ثرثرةٍ تَجْمعنا حول "نافورة الماء" في باحة منزلنا القديم، إلى جولة في الصالحية أو الحميدية أو الجسر أو أبورمّانة.. أو أيّ شارع من شوارع الشام..

اشتقت إلى العبث مع أصدقاء النشأة الأولى، ومنهم ماهر طلعت "الشركسي"، ومروان طاطروس وفؤاد عيسى "المسيحيان"، ونصف الرفاق أو أكثر من الأكراد في مدرسة ابن العميد في الحيّ الذي كان يحمل اسم الأكراد.. ورفاق "الخيمة" التي جمعتني أثناء دورة "الفتوّة" في آخر أعوام المدرسة مع 11 صديقا من حوران واللاذقية ودير الزور وحمص وحماة وحلب ودمشق وغيرها..

اشتقت إلى كل الأهل في كل حي من كل بلدة في سورية.. في الشام.. إلى كل نسمة من نسمات الشام.. وكلّ ربوة من ربى الشام.. وكلّ مئذنة من مآذن الشام.. وكل بسمة من البسمات على وجوه أهل الشام..

. . .

لا أستطيع تصديق أنّ الغوطة أجدبت، وبردى غاض، وقاسيون ركع.. وأنّ البسمات غابت عن الشفاه والعيون!

لا أستطيع تصديق أنّ الشام لم تعد كما رأيتها آخر مرّة قبل اثنتين وثلاثين سنة (أصبحت في هذه الأثناء ٣٧ سنة باستثناء زيارة في الشمال أثناء الثورة).. أنّها تبدّلت عما كانت عليه عندما نشأت فيها.. في شارع الروضة.. في حي الزهراوي.. في حي ابن العميد.. قبل أن أغادرها لأول مرة قبل ستّ وأربعين سنة (في هذه الأثناء: ٥١ سنة)..

لا أريد أن أصدّق ما يرويه لي عنها كلّ من يأتي من الشام، فألتقي به، وأصغي إليه، وأسمع منه ما سمعته ألف مرة ومرة، ولا أسأم من سماعه من جديد.. هنا.. في غربتي القسرية.. بعيدا عن الشام.. وعن أحبتي في الشام.. وعن تراب الشام وهوائها وقاسيون الشامخ مطلاّ عليها وبردى وفروع بردى وخرير الماء فيها يشنّف آذان أهلها وينافس ألحان العصافير في سمائها..

ما الذي بقي من الشام أيها الأحبة؟

وما الذي بقي منّي -ومن أمثالي.. وأمثالي كثير- بعيداً عن الشام والأحبة فيها؟

لقد شاب صدغاي يا أهلي الأحبة وأودّ أن تكتحل عيني بمرآكم ومرأى الشام، سيّان كيف أصبحت وكم تغيّرت خلال نصف قرن من الزمن.. وكأنه خارج دائرة الزمن..

أودّ أن أجول جولة في الشام.. ولو كانت الجولة الأخيرة قبل أن تغمض العينان إلى الأبد.. وألقى الله فيسألني عمّا صنعتُ من أجل الشام وأحبتي في الشام!

. . .

لم ينقطع الحنين على مرّ السنين.. إنّما لم يبلغ يوما مثلما بلغه الآن، ممزوجا بالألم يعتصر الفؤاد مع كل مشهدٍ يخترق البصر اختراقا، ممّا يلقاه أطفال بلدات حوران وشباب بانياس وضواحيها وطلبة جامعتي دمشق وحلب وأخواتهما وما يلقاه نساءٌ ورجالٌ من القامشلي واللاذقية وحمص والصنمين وحماة والحسكة وإدلب ودوما.. ممّا يلقاه أهل سورية جميعا في فورة جنون الباطل من ثورة الحق الطاهرة على جبروته الآسن.

ما أعظمكم يا مَن لم تيأسوا من استرداد الشام واسترداد سورية بعد كلّ ما صُنع بها وبأهلها.

لم أشعر يوما مع الألم في أعمق الأعماق مثلما أشعر اليوم بالأمل يتجدّد في أعمق الأعماق، أنّ العودة بعد الغربة القسرية قد دنت.. إن بقيت فسحة من العمر، وأذن الرحمن لأبطال سورية باسترداد حياة شعبهم أسرةً واحدة، واسترداد حريةِ مَن حُرم منها في مقتبل شبابه حتى الآن.. ومَن ولد وبلغ سنّ الشباب ولم يذق طعمها إلى يومنا هذا..

لم أشعر يوما مع الفخر بأهلي في سورية مثلما أشعر اليوم بالثقة العميقة أنّ بعد كل ظلمةِ ليلٍ كالحةٍ فجراً منيرا وشمسا مشرقة.

. . .

يا أهلي الأحبة الأبطال الأحرار الكرام في درعا والصنمين وكل بلدة من بلدات حوران، شقيقة الجولان التي أغفل عنها من يحاربكم حربا ضروسا.. ودّدتُ -يعلمُ الله- لو امتزج دمي بدمائكم الزكيّة، وانطلق هتافي مع هتافاتكم الأبيّة، والتقى دعائي مع أدعيتكم التقيّة وأنتم توّدعون قوافل شهدائكم -على أرض حوران المستهدفة وليس على أرض الجولان المنسية- وترجعون من مواراة أحبابكم التراب، لتستقبلوا رصاص الغدر والطغيان من جديد بصدوركم ونحوركم..

يا أهلي الأحبة الأبطال الأحرار الكرام في اللاذقية وبانياس وطرطوس وجبلة، وفوق كل رملة أبيّة من رمال ساحل الشام وددّتُ -يعلم الله- لو استطعت أن أغسل بدموعي مع دموعكم الطاهرة الساحلَ والبحر من لوثة الظلم وعربدته، وإجرامه وحماقته.. ناسيا عكا وحيفا ويافا على ساحل الأرض المغتصبة..

يا أهلي الأحبة في حمص وحماة وإدلب، في الحسكة والقامشلي ودير الزور، في كل بلدة من البلدات ومدينة من المدن في بلدنا المختطف، في أغلال مَن يتاجر بأغلال فلسطين المختطفة.. وددت -يعلم الله- لو استطعت أن أنادي بأعلى صوتي معكم بندائكم: "حرية حرية"، وهتافكم: "بعد اليوم ما في خوف"، وتحدّيكم لصانعي الفتنة رصاصاً يطلقونه على أهل البلد الواحد وتفرقةً يمارسونها عبر عشرات السنين بين أهل البلد الواحد، وأنتم تردّدون بصوت واحد يدوّي في أسماعهم وأسماع الدنيا كلها: "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد"..

يا أهلي الأحبة في كل قطعة من جسد دمشق الدامي، قلب الإباء والتحرّر والعزة والكرامة، النابض في دوما وحرستا، في الأموي والرفاعي، في كفرسوسة والحميدية، في التلّ والمعضمية.. نبضا يعانق من وراء قضبان الظلم والطغيان نبضَ المسجد الأقصى الأسير في بيت المقدس، وددت -يعلم الله- لو أفدي شهداءكم بنبضات القلب نبضة بعد نبضة، وأمسح جراحكم بما ينهلّ من عينيّ دمعة بعد دمعة، وأن أتلقّى بضلوعي مثل ما تتلقّون من الغدر والإجرام.. وأشكّ في نفسي: هل أتحمّل آنذاك ما تتحمّلون، هراوة فوق هراوة.. ورصاصة إثر رصاصة.

ما أحقرهم وما أبشع دناءتهم!

وما أكرمكم وما أعظم بطولاتكم!

أنتم يا شباب المستقبل وفتيات المستقبل في جامعة دمشق وفي جامعة حلب، وفي كل جامعة ومدرسة، ومصنع ودائرة، وحقلٍ وحارة.. أنتم يا ثروة سورية في حاضرها ومستقبلها، يا من وضعت سورية، سوريةُ الوطن والتاريخ والحضارة، أملَها الكبيرَ الكبيرَ فيكم أنتم، لتنتزعوا سورية من اختزالها في تقديس فرد أو تقديس حزب -وبئس ذلك التقديس- وأنتم تهتفون: "الله.. سورية.. حريّة وبس"..

أنتم الأمل في أن تستعيدوا لسورية حريتها المغتصبة، وتصنعوا لها مستقبلها الشامخ، كما يليق بشعب سورية الكريم العزيز..

أنتم.. يا منارات العزّة.. كم من الحقد العدواني يغلي في صدور أولئك الذين يرسلون إليكم في الجامعات والجوامع، والحقول والمصانع، والأحياء والمنازل.. عصاباتِ الفتك والقتل والتنكيل والاعتقال التي ربّوها على الإجرام على امتداد 48 سنة كبيسة من عمر سورية.

. . .

يا شباب سورية وبناتها.. يا أعزّ من نبض قلبي الذي أحييتموه على قلبي.. هل رأيتم ذلك الرجل التونسي الهَرِم الأبيّ وهو يخاطب شباب تونس وفتيات تونس منادياً والعبراتُ تلمع في عينيه: "لقد هرمنا.. هرمنا بانتظار هذه اللحظة التاريخية".. فوربّ العرشِ يا جيل المستقبل في سورية، أكاد أسمع كلّ من عايش تلك الحقبة السوداء المظلمة من تاريخ سورية يناديكم من أعمق الأعماق: "لقد هرمنا.. هرمنا بانتظار هذه اللحظة التاريخية"..

هي اللحظة التاريخية التي عجزنا عن صناعتها وتصنعونها أنتم..

عشنا بانتظارها يا أبناءنا وبناتنا.. يا أغلى الغوالي على أفئدتنا.. يا أعزّ ما يعطي وطننا.. يامن نستحيي من الاعتذار إليكم أنّنا لم نصنع لكم "اللحظة التاريخية" التي تستحقون.. إنّما تصنعونها أنتم الآن، وسيجني أبناؤكم وبناتكم بإذن الله ثمراتها، وسيعيشون في ظلالها.. في سورية التي تُحْيونها من جديد ببطولاتكم وصمودكم، بعزتكم وإبائكم، بفدائكم وإقدامكم..

ننظر إليكم وننظر إلى الوراء ونتساءل عمّا صنعنا، أين كان قصورنا، هل كان في خوف من الطاغوت، أم كان في ضعف ثقة بأنفسنا، أم كان بسبب تفرّقنا على ألف طريق وطريق؟

نتساءل.. ونعلم الجواب، فهل أدركتم علام أشعر اليوم -كما يشعر جيل بأكمله أنتمي إليه- بالأمل والثقة كما لم أشعر بهما من قبل؟

أنتم الذين تزرعون الأمل والثقة في نفوس جيلنا وجيلكم وفي قلب كلّ إنسان حرّ كريم يرجو لسورية وأهل سورية مستقبلا حرا كريما عزيزا..

أنتم تصنعون الأمل والثقة، لأنكم كسرتم حاجز الخوف من الطاغوت.. الطاغوت الصغيرِ الصغير.. رغم جرائمه، ووثقتم بأنفسكم وقدرتكم على التغيير.. رغم جبروت الاستبداد الفاسد وقمعه، وحقّ لكم أن تثقوا بأنفسكم وانتصاركم، فأنتم قادرون على صناعة التغيير وصناعة "اللحظة التاريخية" منعطفا للتغيير نحو مستقبل الحرية والعزة والكرامة.. قادرون لأنّكم تتحرّكون بجسارة مذهلة، وبقلب واحد، وهتاف واحد، وإحساس واحد، وفهم واحد مشترك.. أنّ سورية لأهل سورية جميعا، وأنّ الوطن وطن أبنائه وبناته جميعا، وأنّ التقاءهم في ثورة العزّة ما بين البوكمال ودرعا والساحل والبادية، على صوت واحد، وهدف واحد، وطريق واحد، وتضحيات مشتركة، وأدعية مشتركة، وآمال مشتركة.. سيصل بنا جميعا، سيصل بنا معا -إلاّ من أبى واستكبر- إلى تلك اللحظة التاريخية التي تصنعونها يا أغلى الأحبة.

وهل يأبى ويستكبر إلاّ أولئك الذين يوجّهون الرصاص لصدور أهل البلد الذي يسكنون فيه، فهل ينتسبون إليه حقا؟!

أما آن الأوان أن يرجعوا عن غيّهم؟ فالظلم ظلمات في الدنيا والآخرة!

أما آن الأوان أن يحاسبوا أنفسهم على استبدادهم وفسادهم وحماقاتهم.. قبل أن تدحرهم مسيرة ثورة العزة على استبدادهم وفسادهم وإجرامهم؟

ألا يستطيعون أن يعيشوا بشرا كسائر البشر، مواطنين كسائر المواطنين، سوريين كسائر السوريين، بدلا من أن يعيشوا كالأموات عبر تقديس فرد منهم، تقديسا مخزيا يحطّ من كرامته وكرامتهم.. بدلا من تشبّثٍ غوغائي بحزبٍ متسلّط يقضي على نفسه وعليهم.. بدلا من ممارسات استبدادية فاسدة عبر ما وضعوا عليه أيديهم اغتصابا ونهبا، ولا يمكن أن تؤدّي إلاّ إلى هلاكهم؟!

أما آن الأوان أن تعود سورية، إذا عادوا هم الآن.. عادوا حقّاً لسورية الوطن.. أو أن تعود سورية من بعدهم، رغما عنهم، شامخةً بأبنائها وبناتها، بشيوخها وشبابها، بنسائها ورجالها، بجميع فئات شعبها وطوائفها، بكل مدنها وبلداتها، بكل لحظة من لحظات تاريخها المجيد من قبلهم، وكل لحظة من لحظات مستقبلها المجيد من بعدهم؟

. . .

يا أهلي الأحبة الأبطال الأحرار الثائرين.. اشتقت إليكم يعلم الله، ويعلم الله كم ينزف القلب مع الشوق ألماً وأنتم ماضون إلى علياء التحرّر والكرامة على جسور الجراح، وأيديكم تقبض على نزف الجراح، من أجل بلدكم ومستقبله، وأمتكم ووحدتها.. كم أتألم عن بعد، وأنتم في القلب والبصر رغم المسافات والحواجز التي فصل بها غدرُ الطغيان المتعسّف بيني وبينكم..

يا أهلي الأحبة كم أجلّكم وتُجلّكم الأمم، وأغضّ طرفي دامعا بين أيديكم، وأهمس بصوتي خافتا في مسامعكم، فليس لأحد أن يمدّ بصره ويرفع صوته، إلاّ إذا كان بينكم، بهاماتكم العملاقة فوق الطاغوت، وحناجركم الهادرة أعلى من أزيز الرصاص، وصدوركم الشاهدة على طهارة الحق مثلما تشهد على حقارة الباطل المتهالك، وغازات الاستبداد السامّة، وعصابات القمع الغادرة، وهي تواجهكم بالقتل.. لأنكم تطلبون الحياة، وبالاختطاف.. لأنكم تطلبون الحرية، وبالاعتقال والتعذيب.. لأنكم تطلبون الكرامة والعزة.

ولسوف يندحرون وتنتصرون، سيندحر الإجرام وينتصر هتاف ثورتكم: "سلميّة سلميّة"، ويتساقط الطغيان المهترئ وتعلو أيديكم النقيّة وسواعدكم الفتية وهاماتكم الأبية..

سيندحرون.. وستنتصرون.. وستستردّون الوطن وعزته، والأهل ووحدتهم..

وآنذاك يتجدّد بإذن الله اللقاء في الغوطة وقرب بردى وبين أيدي قاسيون وفي حارات دمشق آمنةً على نفسها.. وفي كل بقعة من بقاع الشام تتنفّس هواء الحرية من جديد.

آن أوان اللقاء.. آن أوان اللحظة التاريخية في سورية على منعطف التاريخ، الفاصلة ما بين ظلمة الليل وإشراقة الفجر، ما بين تجبّر الطاغوت وصَغاره، وإباء هامةِ شعب أبيّ كبير.. ولقد كانت هامته شامخة إلى علياء السماء على مرّ العصور، وستعود شامخة من جديد بإذن الله.. إنّه القوي العزيز، فأبشروا بالنصر، وما النصر إلا من عند الله القوي العزيز.

نبيل شبيب